إخلاص فرنسيس

هذه أنا يا صديقي
هذه أنا، سأخبرُك بقصّتي
أين مولدي، ومن أنا حين أعثرُ على ذاتي
أنا كما يقولونَ من بلد كلّلتْ جبالَه الشاهقة ثلوجٌ بيضاء
أحببتُها، وأخذتُ من ألوانها عبيرَ صباحي، دثّرتُ بها روحي
أحببتُ نقاءَه، لأنّه يذكّرني بكلِّ ما هو جميل
لم تكتفِ الجبالُ بتلكَ الحلةِ البيضاءِ، بل خلعتْ عليها السماءُ حلة خضراءَ تتماوجُ مع الريح، وتقف صامدةً في وجهِ الأعاصير وكلِّ مَن حاولَ أن يهزمَ جمالَها، ويكسرَها
وكان ذلك البخورُ الذي تنسّمه في خمائل شعري في كلِّ ليلةٍ أراكَ فيها على شرفة المساء
امرأةٌ أنا، وكنتُ يومًا طفلةً تركضُ في السهول، وعلى شواطئ البحار
وتُصغي إلى حكاياتِ أستاذِ التاريخِ الذي زرعَ في مخيّلتي أسطورةَ العاشقين
وقصّة الأرجوان، فاتخذتُها، ولونتُ شفتيَّ بأحمرِ الألوان، وهكذا كان
لا لم يكنْ حلمًا، بل حقيقة وأكثر، عيناي تسألانني: من أين أتى السرُّ الدفينُ فيها، وغزارةُ الرمش وكحلُ الطبيعة؟ من أين استمددتها؟ سأخبرك يا مَن عشقتْه روحي
إنّه لونُ ليلِ بلدي الطويلِ الحالكِ الممزوجِ بنورِ القمر من بعيدٍ يتراقصُ
ساهرةٌ أنا على سطحِ داري، أعدُّ النجوم، وأغازلُها، لفحني الليلُ الداجي
وأرخى ستائرَه على أهدابي، ناعسةً أغزلُ من خيوطِ القمرِ الفضيةِ عباءة، لنختبئَ في طياته، ونتقي بردَ كانون
سمراءُ أنا تقولُ، إنّه لوني القمحيُّ الأسمر، أستمدُّه من صخور بلدي التي لوّحتها أشعّةُ الشمسِ الذهبية
أمّا صوتي فهو صوتُ عاشقةٍ أتلفَها السهر، وحاكَ حبالَ صوتِها من نفحاتٍ جبرانية
في صدري تهدر أصوات غريبة، وصدى صوت من بعيد ينادي من عمق الجبل كما من مغارة جعيتا حيث رسمتْ على حوائطِها قصتنا
أمّا منزلي – يا سيدي- وأين أقيم فهذا سرٌّ سأبوحُ بهِ لأولِ مرة
أقيمُ في محاجرِ العيونِ وفي الصدور
مشروبي الحروفُ، ومأكلي جميلُ الكلمات
عطري .. آهِ من عطري، إنّه أنفاسٌ آتيةٌ من البعيد، قديمةٌ كقدمِ أرزِ بلدي، وأسطورةُ عشتروتُ منها عطري
بمَ أخبرُك بعدُ عنّي وعن معتقدي؟
إنّي أؤمنُ بالإنسانِ أينما كانَ، وأؤمنُ بالحرِّية
وقد دفعْنا ثمنَها من دمائِنا على مرِّ العصور، والتاريخُ يشهدُ
أمّا الحبُّ فحدِّثْ ولا حرجَ، فهو ديني
والعشقُ صومعتي، أركضُ إليهِ مطواعة
لا أهربُ منه، هو قدري
هوايتي أنْ أخطَّ أحلامي على وجناتِ الياسمين
وأركضَ على الشواطئِ، وألعبَ مع النوارس
وفي الغاباتِ حيث شيدتْ لي قصور
أهرعُ إليها في كلِّ ربيع وشتاء
أمتزجُ والطبيعة بكلِّ حللِها وألوانِها
أستحمُّ في سواقيها، أطاردُ العصافير، وأعبثُ بأعشاشها
أداعبُ فراخها، صديقتي هي
نمارسُ معًا هوايةَ الطيرانِ على أجنحةِ الريح
أمّا هوايتي الصيفيةُ فهي البحرُ بكلِّ ما فيه من رمل وموج
تداعبُ قدمايَ أمواجَه الغاضبةَ التي تتكسّرُ على الصخورِ كأحلامِها
إلى عمقِ أسرارها حيث أدفنُ ذاتي، وأهربُ منّي إلى أحضانِها
أمّا خريفي – يا صديقي- فهو ألوانٌ ممزوجةٌ برائحةِ بواكيرِ المطرِ في بلدي
آهِ – يا صديقي- هل عرفتَ من أنا؟
لا
وكانَ الرحيلُ قبل أنْ أعرفَكَ، وتعرفَني
ما زلتُ أحلمُ بامتطاءِ الأمواجِ، عساها تأخذُني إليَّ، فوحدَها تعرفُ عنواني
تعرفُ أنِّي على قيدِ الحلم
وللحلمِ حكاياتٌ عصيّةٌ على النسيان
إخلاص فرنسيس
…
“لي صخرةٌ علقَتْ بالنجمِ أسكنُها
طارَتْ بها الكتْبُ قالتْ تلكَ لبنانُ”
سعيد عقل