التواطؤ: التوافق (معنى معجمي قديم)، تطور إلى معنى دلالي حديث (التوافق في الباطل أو فيما يضر أو يسبب الأذى (تواطأ القوم على الباطل ، وتواطأ معه وافقه على ما ليس مقبولا من منطق أو خلق قويم) .
مفردة التواطؤ ليست متداولة شعريا، فقد وردت في أضيق الحدود وأبرز شاعر استخدمها بدلالتها الحديثة الشاعر الأخرس حين قال :
وإنِّي لأشكو عصبةً ما تطأطأت لرشد وإنْ تُدعَ إلى الرشد أبطأت
لها الويل قد خَطَّت ضلالاً وأخطأت إلى الله أشكو عصبة قد تواطأت
المفردة غير المستخدمة لفظا تكاد تفرض دلالتها على مواقع التواطؤ الاجتماعي (التواصل الاجتماعي سابقا) ملتهمة معظمها وفارضة قانون التواطؤ على كثير من صفحاتها التي كان من المفترض أن تكون مساحة حرية وتنوير وتغيير وترفيه (هادف ومحترم وجاد)، حتى لكأننا يمكن أن نقول ” التواطؤ” سمة العصر ، و قانون مواقع التواطؤ الاجتماعي ، إذ أصبح التواطؤ (معلنا أو خفيا ) قانونها المسيطر .
عبر كثير من الصفحات والجروبات وقنوات اليوتيوب ستجد من التواطؤ ألوانا وأشكالا ، ولكنها في النهاية تنحصر في نوعين أساسيين :
– التواطؤ مع.
– التواطؤ ضد.
بحدوث النوع الأول يتحقق النوع الثاني، والضحية كل ما تواطأت الجماعة البشرية عليه: قيم ، مبادئ ، حقوق ، حريات، ثقافات ، حضارات ، أشخاص )، و هلم جرا وفي اللحظة ذاتها التي يبدأ فيها النوع الأول يكون الثاني نتيجة حتمية له.
أولا: التواطؤ “مع” وله نوعان أساسيان:
1- مع الذات: حيث يتواطأ الإنسان مع نفسه فيصدقها، فيروس يصنعه بنفسه وما عليه سوى أن يبثه في ذهنه ، فكرة بسيطة يمررها إلى ذهنه المكدود بفعل عجزه عن التحقق فيما هو مخلوق له ، فيمرر فكرة بديلة : كونه شاعرا أو روائيا أو ناقدا أو أستاذا جامعيا كبيرا ، أو باحثا مغوارا ، أو فنان كبيرا أو يتويبرا بعدها لن يعدم من يدعم فكرته، يؤيدها ويضخمها حتى تصبح كيانا هائلا يصعب على الأفراد زحزحته، ماعليك إلا أن تتابع الصفحات حتى تنهال عليك المواهب الجبارة ، والجيوش الجرارة القادمة من كل فج وخرارة (خرارة لفظ عربي فصيح يستخدم في غير معناه).
2- مع الآخر: بطرق عدة، يتشارك الناس على صفحات التواطؤ في إنجاز أكبر عمليات التواطؤ، على طريقة شيلني وأشيلك، تواطأ معي اليوم، سأكون معك في الغد، ويابخت من بات وهو متواطئ، وإذا أردت أن تهني فعليك باللايك المتحني ، وإذا أردت أن تبارك فعليك أن تليكك وتشارك.
بتعدد المتواطئين تتشكل جماعة بشرية ذات رابط سري من التواطؤ المتين تمهيدا لتشكيل قاعدة جهنمية سلطوية (كم مرة سمعت أحدهم يفاخر بأن متابعيه آلاف أو ملايين).
صفحات الفيس بوك التي تمطرنا يوميا بمساحات من الادعاء ، وتعتاش على نقل الأفكار وسرقتها ، والكتابة الركيكة والضعيفة التي تجد من يصفق لها ويلحقا بآلاف اللايكات والتعليقات والمشاركات (أحدهم يعطي دروسا في النحو دون أن يعتمد تعبيرا واحدا صحيحا نحويا ، والآخر يدرس اللغة العربية بلغة الشارع و ثالث يعطي محاضرات في النقد بلغة القهاوي)، مئات الصفحات لأساتذة جامعة و أدباء ونقاد لا أجد فيها تعبيرا فنيا ولا فكرة أصيلة ولا حتى طرح سؤال للتفكير وتجد آلاف التصفيقات واللايكات والمتابعات.
الفيديوهات التافهة التي تلقى رواجا يحول أصحابها إلى سلطة (فكرية على الأقل) يتواطأ أصحابها مع أنفسهم حين يصدقون أنهم يقدمون محتوى جديرا بالمتابعة، تماما كما يصدقون أنفسهم أن متابعيهم يقدرونهم لأن البشرية لم تعرف أمثالهم (تماما كبعض المطربين الذين يصدقون أنفسهم أنهم يقدمون فنا حقيقيا).
في عملية التواطؤ تسود ثقافة القطيع الشارد، قطيع كل أفراده قادة أنفسهم، كل أفراده مستعدون للتواطؤ، وياويل من يفكر في الاستشفاء أو الخروج عن القطيع، جرب أن تقول أن هذا ليس شاعرا أو أن هذه علاقتها بالكتابة الأدبية كعلاقة جدتي باللغة الصينية، أو جرب أن تقول للدكتورة (نون) أو للكاتبة (هاء)، أو للإعلامي (ميم ) أو عن الدكتور (عين ) أن هؤلاء لاعلاقة لهم بالعلم أو الأدب أو النقد أو حتى فك الخط ، جرب هذا ولا خاب من جرب وغادر القطيع فتغلّب.
يبدأ التواطؤ بصناعة فردية ، ويحقق نتائجه بصناعة القطيع (أعرف أدباء يصنعون من إنسان ناقدا كبيرا حتى إذا ماتناول أعمالهم يرتفع شأنهم ويروحون يستشهدون بما كتب متناسين أنه من صناعتهم وأن صفة ” الكبير ” ليست حقيقية ، لكن فيروس التواطؤ لا يمنحهم الفرصة لإدراك الحقيقة).
ثانيا : التواطؤ ضد ، فكل عملية تواطؤ تحقق نتائجها على المدى الطويل ، وهي موجهة بالأساس ضد كل ماهو حقيقي ، موجهة ضد القيمة بالأساس .
حتى ليمكننا أن نجمع أنواعه الكثيرة في شيء واحد ” التواطؤ ضد القيمة” بصورة غير مباشرة ( أستاذ الجامعة الذي يجبر طلابه على التعليق له أو متابعة صفحته، ووضع لايكات على كل مايكتب ، الصور الركيكة التي ينشرها بعضهم في أوضاع خاصة لاتليق ، لا تقل لي أن صورتك على سرير المرض ، أو في أوضاعك الخاصة تمثل قدوة لطلابك) ، الذين يضعون اللايك لصورتك أو يصفقون لما كتبت من توافه الكتابات هم جميعا متواطئون ضد القيمة ، قيمة الفن ، قيمة الكتابة ، قيمة الجمال ، قيمة الأخلاق.
الذين يتواطؤون بالتصفيق على كتابات الروائية (دال) ، ويشنفون أذاننا بالناقدة (ميم) ويهتفون باسم الشاعرة (هاء) ، ويكتبون عن الروائية (ميم أيضا فالميمات كثير) ، ويعملقون الأستاذ (عين) أيها السيدات والسادة أهلا بكم في أكاديمية التواطؤ الكبرى.
الذين يكرمون أشخاصا هم يعرفون أنهم لم ينجزوا ولم يقدموا وأن هناك من هو أحق منهم ، أنتم فارغون من كل قيمة ، ومن كل معنى(مثال صارخ للتواطؤ يكاد يمثل المثال الأبرز بعد مثال لايكات الفيس بوك وحبشتكاناته) .
المتواطئ فارغ ، فاقد القدرة على أن يمتلئ بما هو حق ، لديه قدرات تبريرية قادرة على أن تبرر لك أن ” ثلاثية نجيب محفوظ” منتحلة من رواية من تأليف عنترة بن شداد ، وأن مسرحية ” الملك لير ” من تأليف الحارث بن حلزة ، يمنحك التواطؤ طاقة لا قبل للحق بها ، كما يمنحك قدرا من الانتشاء لا توفره ولا تحققه المخدرات مهما كانت قوتها ، ومع التقدم في التواطؤ يفرز جسمك هرموناته التي تجعلك لا ترى غير المتواطئين أمثالك.
للتواطؤ أسبابه التي تتنوع بتنوع الموقف وسأكتفي هنا بسببين:
1- الجهل وتراه واقعا في الأدب والنقد والبحث العلمي والفن ، وإليك أمثلة لك أن تضيف عليها : أستاذ جامعي لم يقرأ رواية واحدة في حياته ، يشرف أو يناقش رسالة علمية في الرواية ، الرسالة مليئة بالمشكلات العلمية والمنهجية ، ولكن لأنه جاهل بما يشرف عليه أو بما يناقشه يتواطأ ، أستاذة أكاديمية تجهل أبجديات البحث العلمي وحتى وصلت لعلى درجة علمية لم تكتب كلمة واحدة في بحث واحد ، تناقش أو تشرف فليس لديها سوى أن تمارس التواطؤ في أبهى صوره ، ناقد علاقته بقصيدة النثر كعلاقة ماركس بالإسلام ويتصدى للكتابة في قصيدة النثر ، كاتب يدفع لأستاذ جامعة (مشهور بقوة التواطؤ) ليكتب عنه مقالة ( كلما قرأت له مقالا أنفجر ضحكا من عناوين مقالاته كأنه يوما لم يقرأ كتابا ولا درس نقدا ولا شارك في جلسة علمية) ، والكاتب يتواطأ متفاخرا أن فلانا ( الكبير) كتب عنه ، أستاذ بلغت به وضاعة الخلق كل مأخذ له في كل عام بحث مسروق ،،،،، القائمة تطول وللحديث ذيول وذيول.
2- غياب الذائقة ، من لا يملك ذائقة يكتب لمن فقدوها ، والكاتب في مسيرة تصديقه لنفسه يعتقد أن رسالته وصلت حين تزداد عدته من اللايكات (المزيفة)، مرة واحدة أحلم بها: أن أدخل على منشور ضعيف أو مليء بالأخطاء وأجد من ينتقد أو من ينبه إلى خطأ بل الجميع يصفقون باليدين والرجلين وواضعين اللايك المتين والمنشور يخرج من الزفت ليدخل الطين.
في السنوات الأخيرة تطور التواطؤ، منتقلا من الأفراد إلى المؤسسات ، راجع مئات من حالات السرقات العلمية في معظم مؤسساتنا الأكاديمية ، ورغم أن القوانين صريحة وواضحة تمارس المؤسسات ( الأقسام العلمية أولا والكليات ثانيا ، والجامعات ثالثا ) دورها في التواطؤ (الأصيل) ، وليس أدل على ذلك استمرار المسلسل ببراعة ( لدي واقعتان حديثتان مما كان من الممكن أن تشيب لهما رؤوس الولدان ، سأكتب عنهما لاحقا)، وهناك جامعات بكامل قيادتها وأفرادها تتواطأ على أعضاء هيئة تدريس لصوص ، والجميع يعلم ولكنها ثقافة التواطؤ .
عندما تتواطأ تخطو نحو القطيع، دون أن تدرك أنك تفقد جانبا من كرامة العلم أولا وكرامتك ثانيا ، وفضائل الإنسانية ثالثا ، ولكنك تكون قد وصلت إلى درجة المستوطئ وهي أعلى درجات التواطؤ ، عندها ترى الروائية (دال) أفضل من نجيب محفوظ وأقوى من ” ستندال” ، وسترى الدكتورة ” فيفا” أفضل من جوليا كريستيفا، عندها ستصبح سلطة لا يشق لها غبار ، وسيكون للغبار أثره في إخفاء كل شيء إلا أنت .
أيها المتواطئون : ………، ارحمونا لا رحمكم الله .