طوني طراد
كيفما كنتَ تتنقّل بين منازل برحليون وأرزاقها في الزمان الغابِر، كنت تسمع الناس يُرندحون المواويل والعتابا والميجَنا… لكنّك حين كنت تسأل مَن هو “مَلك القرّادي” في هذه القرية؟ كانوا يُجيبون: وهبي عيسى
ولد سنة 1892 في منزل يَلهَج بالزجل… وما ان أصبح في الثالثة عشرة من عمره حتى أخذ يرندح قرّاديّات بين أقرانه يَصف فيها “خبريّات” أهل قريته والجوار… وكانت مُراهقته مُزدانة بزَجليّات وتَحَدّ واهتمام بالحقول والأرزاق… وسَهرات “لَ وِجّ الصبح” في قريته والقرى المجاورة… ومَرّة، اغتاظ منه والده لأنّه أطالَ السّهَر… وبعد أن أنّبَه، سأله: “وين عم تسهَر؟”. فأجابه وهبي على الفَور
عَم تسألني بـِسهَر وَين ؟
وأغلَب سَهراتي عالعَين
والشِفّه فـَوق الشِفّه
وبَصبوص العَين عْلى العَين
كان يُتقن السريانية، وهو من بين القلائل الذين كانوا يقفون على “القِرّاية” في الكنيسة… كما انه نَهَل من الكتب الدينية، فحَصّل ثقافة لا بأس بها جَعلته يطّلع على مختلف الهرطقات التي حاربَت الدين المسيحي في تلك الآونة… وعندما جاء المطران نصرالله صفير (البطريرك لاحقًا) ليكَرّس “بَيت الخَورنية” في برحليون، رَحّب به شاعرنا بـ قرّادية نالت استحسان الحاضرين من كهنة وشَعب، وما زال الناس حتى هذه الساعة يتذكّرون بعض أبياتها، ومنها
لاشَيت القَوم الكِفّار
حْرَقِت دِينْ الفَرمسيون
وكان يقصد أنّ المطران صفير تغلّب بقداسته وطُهره واستقامته على بدعة Franc-maçonnerie.
إشتـُهر بـ “الكَي”، وكان الناس يقصدونه من القرى والمدن لكي يَشفيهم. كيف لا وهو أصبح دَواءهم الأخير قبل أن يفارقوا الحياة… وفي إحدى المرّات كان هناك شبّان من قرية حِلتا (قضاء البترون) يشتغلون في بناء منزل بالقرب من برحليون، فارتأوا أن يحتالوا على شاعرنا ويوهِموه أنّ مْخاييل (شاب من حِلتا) مريض جدًا ويجب أن يَكويه ليتعافى… فاهتدوا الى منزله في القرية، وحَملوا الشاب إليه وهو يُصدِر الآه تِلو الأخرى… أمَرهم وهبي بأن يُجلسوا المريض على الأرض، فتظاهَر بأنه لا يستطيع ذلك وأدرَكه الإعياء… وبسرعة، اقترب منه شاعرنا و”قَرَصَه” في فخذه، فصَرخ من الوَجع وهَبّ واقفًا… فتضاحَك وهبي عليه مع الحضور، وقال له بسرعة
يا مْخاييل الحِلتاوي
عَا فِهم وزَكا حَاوي
طالِب مِنّي دَوا تـْصِح
وإنتَ لْ الكِلّ تداوي ؟
كلّ حَدث في برحليون والقرى المجاورة كان يُؤرَّخ مِن قبل شاعرنا بـ قرّادية “غير شِكل”… ويذكر المُعَمّرون في قريتنا انّ ابنه كان يتنافس مع أقرانِه على الزواج من صبيّة جميلة اسمها ماركو… وبعد مرور شهر، رأى شاعرنا ابنه يبكي مع أربعة من رفاقه في ساحة القرية، فاقترب منه وسأله: ليش عَم تِبكو ؟! فأجابه الابن العاشِق بمرارة: إنشَلفِت ماركو… وعاد للبكاء بحَرقة مع رفاقه. فضحك وهبي وقال له على الفَور
كـْتار الـْ لِفيو ع مَاركو
وبَرمو حْوالـَيها وحَرْكو
وكِل واحد ضَرَب افرَام
ومِسكو بي إيدو وفـَرْكو
كانت زجليّاته تُردّد على ألسنة الناس شبابًا وشيبًا، حتى أصبح “مَضرب مَثل” في كل مكان… وما زال بعضهم يتغنّى بقرّاديته عن “أصهرة الضيعَه” حتى هذه الساعة، ولقد جاء في بعض أبياتها
بولس اسْكِندارَه
وجرجي امْتَاع مَرسين
ووَديع من الحارَه
ورامِز مِن رَشعين
وعِلقِت الصِنّارَه
بْ طَنسي تَنّورين
اتأمَّل مَلاّ عْبارَه
وخِدلَك مَلاّ زْبون
لَ جِحي بيكاغو
بْ لَونو مَبسوطين
الحَشيشِه بْ دماغو
ضَربِت يا مَسكين
واحْتارو بي دَاغو
كِلّ الصِبّاغين
ها مِن ألله صْباغو
مُش مَدهون دْهون
فحَبّذا لو تُجمَع زجليّات هذا الشاعر وتطبَع، لأنّ تراثَه المُتناثر يُضيء على نَوادِر وحَكايا تُغني المكتبة الزجلية اللبنانية وترفدها بخَفايا لا تقلّ عن الروعة… فهَل مِن مُبادِر ؟