عبدو وازن
كنت تودين أن توجهي طعنة إلى قلبك
كما تفعل المنتحرات في حكايات الحب القديمة
لكنك عندما لم تجدي خنجراً
تناولت حفنة من حبوب
كانت كافية لتفتح أمامك
نوافذ نعاس طويل
لم تفيقي منه
عندما طرقوا زجاج سيارتك
في إحدى ساحات مدينة مونبولييه
ولما أخرجوك بعد أيام على موتك السري
لم يضعوا كمامات
كانت رائحتك عطرة
وجسمك على نضارة رغباته.
لم تنتظري السارق الذي يحل غفلة
قلت بالسر: سأكون السابقة
أنت التي أدمنت الحياة
من شدة يأسك منها
أنت التي كرهت الموت
من كثرة ما يعتريه من وهن
إخترت أن تموتي كما تريدين
غير مبالية بما سيكون من بعد
بما لن يكون من ضوضاء.
كنت تعلمين أن لا أحد سينتبه لغيابك
لا أحد سيذرف حبة ملح
لا أحد سيرميك بزنبقة
كنت تعلمين أن لا تراب سترقدين في جوفه
أن جسمك الطافح بجروحه سيحترق
فلا يبقى منه سوى رماد في قنينة صغيرة
أعرف أنك سئمت هذه الحياة، حياتك
والحياة التي من حولك
لم تودعي أحداً
لم تودعي ماضياً
لم يخيل لك أنه كان جميلاً
ولا كتبك التي لم تنهي قراءتها
ولا اسطواناتك ولا أفلامك
ولا الأوراق التي خططت عليها
ولا الصور التي تركتها في الأدراج
أبكرت مايا في انتحارك
شئت أن تموتي في منفاك الفرنسي
غريبة لا ينتبه لك أحد
رميت بنفسك في بقعة السواد
ولم تطلقي صرخة
لم تتألمي بعدما افترس الألم
عنقود روحك
كانت تليق بك الحياة
ولو بمرآة مكسورة
لم تجرؤي على النظر إليها
لئلا تبصري وجهك كما لم يكن
لئلا تري عينيك بخفوت بريقهما
لئلا تري شآبيب لم يخف الميكآب شحوبها
كان ينقصك قليل من الضوء
أنت ابنة الشمس وصَدفة البحر
ابنة الشاطئ الذي كثيرا ما تمددت
في هوائه اللزج
ابنة المدينة التي لم تعرفي
كيف تفتحين بوابتها كي تدخلي
ابنة البلدة التي لفظك زبدها
ابنة اللامكان الذي كان أشبه بنجمة
كل ذاك الصخب
كان رجع فراغ تغرقين فيه
كل تلك البهجة
كانت فردوساً مصطنعاً
كل ذلك الجنون
كان هروباً الى وراء
كل ذاك المزاج المرواغ
كان رمية خاسرة
كم حدقت في تلك السماء
بعينيك غير الشقيقتين
عين ملبدة وعين صافية بمائها
كم لم يرو ذاك الحب لهفتك السرية
كم لم تطفئ فيك تلك النشوة لهباً أزليا
مايا النقية بجسمها الشغوف
العذبة بغريزة اللانهاية
المتلهفة كيلا تبلغ غيمة اللارجوع
المتهورة بقسوة نرجسة
أبكرت حقا وربما تأخرت
وحدك تعلمين الآن
بعدما سقطت ابتسامتك بخفتها
بعدما أفل قمر نظرتك اللاهية
بعدما انطفأ بريق شفتيك الحارقتين
كنت أميرة كما قلت آخر مرة
بالفرنسية التي تشبهك
كنت فارسة بحصانك الذي غادر
شاعرة بما لم تكتبي
رسامة بحبر لا مرئي
صعدت إلى خشبة المسرح ثم ضجرت
لجأت إلى كهف الفلسفة ثم ضجرت
اختليت في دير لأيام ثم ضجرت
قرأت كثيراً
أحببت كثيراً
جننت كثيراً
ثم ضجرت
كأن لا ختام لهذا الليل
الذي خبأته في صدرك
الذي باحت به حلمتاك
الذي كان ينتشر ملء خفقان روحك
لا أعرف الان إن كان انتحارك غلطة
إن كنت قهرت هذا الضجر الازلي
إن كنت ارتديت ثوب جولييت التي أحببتها
ان كنت فعلاً صدّقت ما قال ألبير كامو عن الانتحار
بين بيروت ومونبلييه
خيط طائرة من ورق
أحلام وربما ذكريات أصابها سأم
قفزة حصان كان ينتظر خلف السياج
صرخة حب تائهة في الهواء
خوف كان يعتريك عندما تفكرين بالإيدز
ضحكة تتحدى القدر مرة تلو مرة
ساعات السيني كلوب
جلسات الفراغ غير الممل
صحون أمك المتحدرة من أرمينيا
أمك الاتية من حلب
مدينة جديك الهاربين من مجزرة عثمانية
ثم سجائر والدك الذي لم يندمل جرحه
يحمله منذ أول الحرب
عندما قُتل شقيقان لك تحت الرصاص
براءة شقيقك المعاق عقلياً
رقة شقيقتك التي تبحث عن نفسها
سهوك عن الحياة التي تجري ملتوية
لامبالاتك الصارخة
اللامعنى الذي قطفته عن شجرة
لهوك الرئع مثل فقاعة هواء
كنت تظنين
لما تناولت حبوبك
انك ستفاجئين حياة
لم تسمح لك بأن تهزميها
رغم ما جننت من جنون
رغم ما عاندت من دمع
رغم ما انكسرت خيبة تلو خيبة
الآن، لا يسعني الان
إلا أن اقول
هذه امثولة مايا في الانتحار
لا رصاصة ولا جرح معصمين
ولا طعنة صدر
بل حفنة حبوب
ابتلعتها مايا في سيارة
داخل مرأب مهجور
في مدينة مونبلييه البعيدة
ثم نامت
ثم نامت
مثل غيمة في لوحة