
كانت الغرفة هادئةٌ إلى درجة أنّه كان يسمع صوت غيابها.
جلس على الكرسيّ الذي أصبح له الآن وحده. على الطّاولة، كان كوب الشّاي الخاصّ بها ما يزال في مكانه. لم يلمسه أحدٌ منذ ذلك اليوم. سطح السّائل البارد كان يعكس جزءًا من النّافذة، حيث كانت قطرات المطر الأولى تتساقط.
كانت السّماء خارج النّافذة بلون الرّماد. لم تكن مظلمةً تمامًا، بل مشبعةً بضوءٍ حزين، كما لو أنّ النّهار يرفض الاعتراف بغيابه. تنهّد. تكثّف الزّفير على زجاج النّافذة، رسم دائرةً ضبابيّةً عابرةً.
قام بتجفيف الكوب بعنايةٍ ووضعه في الخزانة. حركته كانت بطيئةً، محسوبةً، كأنّه يؤدّي طقسًا. لم يكن التخلّص من الأثر، بل كان حفظه في مكانٍ لا يؤذي العين.
فتح كتابًا كانا يقرآنه معًا. كانت هناك فجواتٌ بين الصّفحات، حيث كانت تضع أوراقًا صغيرةً كعلاماتٍ. إحدى السّطور كانت محاطةً بهوامش بقلم رصاصٍ خفيفٍ. قرأها: “الحزن ليس غياب الشّيء، بل حضور الغياب نفسه.” لم يفهمها تمامًا حينها، لكنّها الآن كانت واضحةً كالماء في الكأس.
لم يكن يبحث عنها في الأماكن التي تركتها. كان يجدها في الفراغات التي خلّقتها. في صمت الصّباح الذي لم تعد تكسره خطواتها، في نصف الوسادة الذي لم يعد منسدلاً، في العتمة التي تسبق النّوم والتي لم تعد تشعر بدفئها.
خرج للمشي. كانت الشّوارع مبللةً، تعكس أضواء المصابيح كقطعٍ مكسورةٍ من المرايا. رأى ظلّه يمتدّ ويتقلّص تحت الأضواء. كان ظلاً واحدًا في مساحةٍ مصمّمةٍ لظلّين.
عندما عاد، كان القمر قد تسلّل من بين السُحب، ورسم مربّعًا شاحبًا من الضّوء على الأرض. وقف في منتصف ذلك المربّع، شعر للحظةٍ بأنّه وحيدًا إلى درجة أنّه أصبح شفافًّا، كأنّ الوجود نفسه يتسرّب منه.
لكنّه رأى نبتةً في زاوية الغرفة، كانت هديةً منها. لم تكن قد أزهرت بعد، لكنّ ورقةً جديدةً صغيرةً بدأت تظهر. مد يده ولمسها برقّةٍ. كانت ناعمةً ورطبةً، تحمل في عروقها الخضراء ذكرى الحياة، ووعدًا غامضًا بالمستقبل.
الفقد لم يكن نهايةً، بل كان تحوّلاً. كان تحوّل الحضور إلى ذكرى، واللّمسة إلى أثرٍ، والصّوت إلى صمتٍ يتردّد صداه في زوايا الروح. وأدرك أنّه من الآن فصاعدًا، سيكون حبّه لها هو التّعايش مع هذا الصّمت، وإيجاد الجمال في الفراغ الذي تَرَكَتْهُ
9\10\2025