مقال فريد لسوزان زوجة طه حسين: سليمان بختي عن موقع ألفا لام
هذا المقال المجهول عن لبنان الأربعينات والخمسينات، كتبته بالفرنسية السيدة سوزان زوجة عميد الأدب العربي طه حسين، وفيه وصف عاطفي للبنان الذي كان طه حسين يحب الاصطياف فيه مع أسرته نحو شهر كامل يلتمس الراحة والدعة واعتدال الجو، حين يثقل عليه الجو في مصر، ولا يجد سبيله إلى أوروبا بسبب قطع خطوط المواصلات أثناء الحرب العالمية الثانية
وكان يتاح لسوزان حسين ان تستمتع بأجواء لبنان، بينما يعكف زوجها على القراءة والإملاء. وهي لم تكتب في حياتها غير هذا المقال الفريد عن لبنان، خارج كتابتها “معك” عن حياتها مع زوجها طوال نصف قرن من الحب والحنان. كان طه حسين يقول:” منذ أن سمعت صوت سوزان عرفت إن الألم لن يدخل الى قلبي أبدا”
“إيه بيروت، كيف ملكتِ قلبي فور رأيتك للمرة الأولى وكنا في شهر مارس. كان المطر يتساقط على سقوفك الحمراء، وتلتمع تحت المطر السقوف وغصون خضراء مورقة كانت تنقشع لنا كلما دنت السفينة من الساحل. كان شيء من الثلج على رؤوس جبال تحيط بك ولا تحاصرك، يشيع في جمالها جلال ساحر، ما أروعها من جبال لا يثير منظرها القلق
زرناكِ مرارا بعد ذلك، فما أنقصت زياراتنا شعورنا بالروعة والجمال، بل كانت تزيدها قوة وعمقا
كان لبنان أثناء فصول الصيف والحرب مستعرة، مأوى نفزع إليه، ننشد فيه الروح والراحة، ونشفي أنفسنا من آلامها، ونعاود فيه الأمل واليقين
نشأت في بلد من غابات وربى، ونشأت أسرتي لا تحتمل القيظ وجفافه الطويل فكنا نقول:”سنبلغ لبنان في الأسبوع المقبل”. كقولنا من قبل ” بعد ثمانية أيام نكون في الألب أو في البيرينيه”
كانت الحرب قائمة ولا يتسنى لأحد أفق سعادة صافية أو كاملة. لذا كانت الروح تعود إلينا ويعود إلينا الهدوء حين نبلغ الناقورة، في جنوب لبنان، عند ربوة كأنها قمة شاهقة، نصعد إليها ونفرغ من معاملات الجمرك، وتدور عجلات السيارة ثلاث دورات ، فإذا نحن في لبنان
ما أعظم الحنان الذي يمازج تحيتنا هذا البحر الفينيقي الرائع الممتد على طول الساحل. وما أعظم حبنا صمت هذا الساحل الأمين الذي تتغنى الأمواج عنده بنغماتها العذبة ونحن نرافقه في رفق وأناة
ما أعظم الحنان الذي يمازج تحيتنا هذا البحر الفينيقي الرائع الممتد على طول الساحل. وما أعظم حبنا صمت هذا الساحل الأمين الذي تتغنى الأمواج عنده بنغماتها العذبة ونحن نرافقه في رفق وأناة
كنا نلقى بيروت كما يلقى الصديق الصديق، ثم نصعد الى الجبل، فيداخلنا شعور لا نعرف له شبيها، وحماسة لا يفهمها من لا يحبون الجبال ولا يألفونها. كنا نصعد، والبحر تحتنا يزداد منا بعدا، وينفلش للناظر انبساطا وسعة، ويتغير المشهد كلما استدارت لنا الطريق
كنا نصعد فيخف الهواء، وتخف الأجسام ويسهل التنفس وينحط الثقل وتنحل عنا قيود الحياة اليومية الثقيلة، فتصفو أذهاننا. ربما كان هذا من الخيال، لكنه خيال مريح يشعرنا بأن نفوسنا وجدت ما كانت تطمح إليه من الحرية
كنا نصعد فتظهر لنا شجرات الصنوبر الأولى! شجر رائع، شجر بحرنا الأبيض، شجر غير مستكبر ولا مغرور، يصطف متسقا في منحدر الجبل، ظله ليس وارفا ولا رطبا، لكنه جميل، شفّت أوراقه فترى من خلال الغصون رقة السماء وزرقة البحر. فالسماء لا تمطر في لبنان أثناء الصيف لذا تظل دائما رزقاء. والصنوبر عطر يملأ الهواء عبيرا أخّاذا، ويبعث الحياة والقوة والنشاط، فيه شدة وبعض قسوة، من هنا سحره وفتنته
كنا نصعد ثم نصعد، فتتراءى لنا أشجار أخرى أكثف غصونا من الصنوبر، وبساتين فاكهة تشيع في الجو عرفا رائعا لكنه أخف من عرف الصنوبر. هنا ثمرة البرقوق أو التين تجنى حارة عطرة وتباع في حوانيت المدن فلا تدعو إلى نفسها من سار ساعة في طريق يملؤها هذا الأريج
نعبر قرى علقت في صفحة الجبل، ذات شارع واحد طويل، استقر على جانبيه باعة كثيرون مختلفون تشتمل حوانيتهم الصغيرة عروض لا تحصى. الدور بسيطة، بعضها يظهر عليه الفقر، لكنها في جملتها رائعة. أمام بعضها مظلة مستديرة وأمام بعضها الآخر سلّم خارجي أنيق، ولبعض المنازل الأخرى أبواب مقوسة ليست من المرمر لكنها تذكر بمناظر في البندقية، استندت إلى بعضها شجرات التين المقعدة
هذا البلد الذي لا غبار فيه، تحتفظ ألوانه على اختلافها بما لها من قوة وجمال
في الطريق، إذا أحسسنا ظمأ عرجنا على مقهى صغير انبسط أمامه مرتفع متواضع يظلله القش أو تظلله غصون، نشرف منه على منظر رائع فاتن، منظر البحر، أو منظر ثنية وعرة أو خطوط جبلية ترتسم في الجو، وربما وقعت العين على مسقط ماء هدار تنحدر منه مياه صاخبة لها صفاء البرد وقصف الرعد، وربما أرسلت الى الوجوه قطرات من زبدها البارد
ثم نظفر بالمأوى في فندق مضياف، ننعم فيه بالراحة، عند هذه الشجرة أو هذه المظلة، فنستنشق النسيم العليل يترقرق تحت شمس هادئة تبعث الحياة، وتسمع صرير الجنادب، وربما ضقت به لأنه يشق على سماعك ولكنك لا تلبث أن تألفه وتطمئن إليه
إذا أخذت بحظك من الراحة والدعة واشتقت الى المشي، في طريق ضيقة يألفها رعاة الماعز، مستكشفا بعض الزهر والغصون. كانت الطبيعة أثناء الصيف تزدان في روعة حين تجنح الشمس الى الغروب بهذا اللون الوردي المشرق. وها هي ذي الآن تتخذ هذا اللون الأرستوقراطي في أكثر أوقاتها، فتبدو صفحات الجبل ناصعة في هذا الضوء النقي كأنها نحتت نحتا. ذلك هو الفصل الرائع الرائق، ولكنه مع الأسف الشديد، الفصل الذي يجب أن نعود فيه من حيث جئنا وقد إغرورقت العيون بالدموع وإمتلأت القلوب حزنا وأسى
في فصل الشتاء يجلل الثلج القمم، وينهمر المطر فيغسل المدينة، وفي فصل الربيع يتفتح الزهر على الجبال ضئيلا، مستحييا رقيقا، وتنشر جنات البرتقال في السهل عبيرا ثقيلا عنيفا
وفي لبنان المقاصف والمراقص والآثار فيجد السائح متعة إذ يمضي يوما في بيبلوس أو بعلبك. وفي لبنان أساطير يبحث عنها الباحثون في أخبار أدونيس وعشتار
المعذرة لست في حاجة إلى دعاء الآلهة أو الأبطال لأحب لبنان. إني أحبه وأذكره دائما وأستطيع أن أذكر له محاسن كثيرة أخرى من البدويات ذوات الثياب المزركشة، عن الطراز الملون يصنعه أهل القرى اثناء السهرات الطويلة في الشتاء، عن الضيافة الأخوية الموروثة يمتاز بها أهل الجبل، عن الأجراس تهتز حرة في الجو، عن نيران الفرح تغمر الجبل بسناها في بعض الليالي، عن أندية يتبادل فيها الشعراء الشعبيون القوافي كما المناضلون سهامهم، والناس حولهم سكارى من نشوة الشعر، عن هذا الجمال الرائع الغريب، جمال الليالي المقمرة تضيء خليج جونية، تنظر اليها من ربى بيت مري، وبيننا وبينها فسحات ألقى عليها القمر رداء أبيض ناصعا، وعن جمالات أخرى في لبنان لا تستقصى
إني أقولها في بساطة ويسر: أحب هذا البلد، وأشكر له كل ما قدم إليّ من جميل