كعادتي أجلسُ في الصالةِ في الدور الأولِ من منزلِنا أغلب الأوقات، بعد أن تنازلتُ عن عملي، وقد كرست وقتي لها بسب ظرف عائلي.
كنتُ في الصباح الباكر أخرجُ من البيت وتأخذني الحيرة ، أيّ طريقٍ أسلكُهُ إلى وزارةِ التربيةِ حتى أصلَ في السابعة والنصف منذ أن استلمتُ عملي في وزارة التربية; بدايةً كنتُ في المدارس قبل أن أنتقلَ إلى مبنى الوزارة في دبي، لم أتاخر قط، كنت أصل قبل الوقتِ المحددِ، وأخرجُ بعد الوقتِ المحدد.
كنت أسابقُ الشارع بين ضجيجِ السيارات والإشارات الضوئية .
كنت أحاول أن أكونَ منتظمةً و أعمل بالقوانين; لكن هؤلاء البشر لم يتركوا لي الخيار من كل جهة، يتسابقون حتى أنني لا استمتع بالمناظر ، ولا التفت للعمران أو للتغيرات التي طرأت على البلاد في الصباح ، وأخرج من المنزل.
كنت أؤمل نفسي أن استمتع بالمذياع وأنسجم ..
ولكن !لا خيار لي سوى السباق مع الزمن، ومع هؤلاء المتسكعين، أحاول جاهدةً أن أحافظَ على توازني ;حتى أصلَ مقرّ عملي، وإذ بي مرهقةً من الطريق والإزعاج، مع هذا كنت أحبّ عملي.
إلى أن جاء اليوم الذي اضطررت أن أتقاعد بإرادتي; لظرفٍ خاصٍ لا أُريد أن أذكره لأنه كان موجعًا جدا.
ومنذ ذلك الوقت ،وبعد أن أزاحَ اللهُ عنّي هذا الظرفَ رجعتُ للحياةِ الاجتماعيةِ، والتعرُّف على أهلي وأحبتي، وأكثرتُ من الزيارات العائلية.
لم أتوقف عن حبي للقراءة ،والكتابة.
أختي شريفة ،كانت أقرب إنسانة إلى قلبي; تسمعني، وتنصحني، رغم أنها لم تكمل دراستها الابتدائية; لكنها كانت بالنسبة لي مثقفةً تفهمني.
كل يوم تبدأ حكايتي معها من بعد الساعة الثانية; أسمعُ منها أخبار العائلة، كنت أرتاح عندما أشتكي همِّي ووجعي، مع كل كلمة كنتُ أحسُّ بالحنان في حديثها، وراحت تصبرّني.
كانت لدي معها طقوسٌ، قبل شهور من رحيلها كانت لدينا مناسبة عائلية، قالت لي سأمر أنا والسائق، تعالي معي واتركي سيارتك، المكان بعيد .
وفعلا أتت و عندما جلستُ معها في السيارة أحسست بتعبها ،قلت لها:
مابكِ؟ هل أنتِ متعبة! ؟؟
قالت : لا لا ربما أنني مرهقهٌ اليوم ،كنت في مراجعة في المستشفى ،مسَكتُ يدَها، أحسستُ بوخزٍ في قلبي، وأنا أردد بيني وبين نفسي: أختي متعبة، وتجلس بصعوبة في السيارة، من يومها كان الخوف يداهمني ،كنت أتصل بها أسألها :هل أنتِ متعبة؟!!
تقول: لا ، فأتعوذ من الشيطان وأقول إنها أفكار سوداوية تلاحقني، ليس لها أساس.
أخذتُ الهاتف الأرضي; لأنها كانت لا تحب أن أتصل بها بالجوال، زاد رنين الهاتف ولم ترد أختي!!
اتصلت بشغالتها !!
-وين ماما ؟!!
أخبرتني أنهم حجزوها بالمستشفى، لا أدري كم كانت سرعتي، ومع هذا أحسست ببعد المستشفي، رغم أنه قريب من منزلنا.
شهرين تعاني أختي، وكانت تصر أن ترجع إلى المنزل; لأنها لا تحب المكوث في المستشفى.
رحلت بهدوءٍ…
دون أن تتعبنا ،رحلت وهي تتمتم بآيات قرآنية وأذكارها النبوية.
أنا اليوم أجلس بالساعات أمام هاتف المنزل، أقلبه، أرفع السماعة، أنتظر رنينه… لقد سكت إلى الأبد، ولم يسكت حزن قلبي!
أحيانا كثيرة لا أصدق أنها رحلت!
.. في سفرتي الأخيرة كان النداء الأخير للمسافرين، وابني يشدّ من يديّ: تعالي..
وقفت أتامّل جوالي!
وبصرخةٍ لا إردية قلت: كيف أركب الطائرة وخالتك لم تتصل! ؟؟
أيعقل!!!
لقد عودتني أن تتصل بي، وأنا في طريقي إلى المطار، وأنا في المطار، و على سلم الطائرة، أنتظر قليلا ستتصل!
شدّني من يديّ..
-أمي استوعبي ترحّمي عليها ..
-لماذا أين هي؟؟
عندما سأصل لن أسمع جرس جوالي لن تتصل!!
أمي النداء الأخير
-تعالي هيا…
“من قال أنّ الغائبين ترحّلوا
لم تبقَ غيرُ طيوفهم تشجينا
هم غادروا لكن إلى أعماقنا
واستوطنت تلك الملامحُ فينا
فسلِ الأماكنَ والمساكنَ والسما
ستجيبُ أنّ طيوفَهم تحيينا”
م13/9/2023