أغنية يا مسافر وحدك.. تحليل أنثروبولوجي في جدلية الاغتراب والانتماء

الدكتور سعيد عيسى
في ليلةٍ قاهريةٍ من ليالي الأربعينيّات، وقف محمّد عبد الوهّاب على خشبة المسرح لِيُطْلِقَ صوته بأغنيةٍ ستصبح أيقونةً ثقافيّةً تتجاوز حدود الزّمان والمكان. فـ”يا مسافر وحدك وناسي الأحباب” لم تكن مجرّد أغنيةٍ عاطفيّةٍ تتغنّى بآلام الفراق، بل كانت مرآةً عاكسةً لتحولاتٍ عميقةٍ كان يمرّ بها المجتمع المصريّ والعربيّ في منتصف القرن العشرين.
وتأتي هذه القراءة الأنثروبولوجيّة لتغوص في أعماق النّص الغنائيّ، محاولةً فهم الطّبقات المتعدّدة من المعاني والرّموز التي تحملها الكلمات واللّحن والأداء. فالأغنية، في جوهرها الأنثروبولوجيّ، ليست مجرّد مُنْتَجٍ فنيٍّ، بل هي وثيقةٌ ثقافيّةٌ حيّةٌ تحمل في طيّاتها أنماط التّفكير والشّعور والسّلوك لمجتمعٍ بأكمله في لحظةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ.
وإنّ اختيار هذه الأغنية للتّحليل لا يأتي من فراغٍ، إذ تمثّل نقطة تقاطعٍ بين الفرديّ والجماعيّ، وبين التقليديّ والحديث، وبين الثّابت والمتحوّل. فهي إذ تخاطب المسافر الوحيد، فإنّها في الحقيقة تخاطب كلّ نفسٍ عربيةٍ عاشت أو تعيش تجربة الاغتراب، سواءٌ أكان اغترابًا مكانيّاً أم روحيّاً أم ثقافيّاً.
إن السّفر في الثّقافة العربيّة يحمل دلالاتٍ تتجاوز مجرّد الانتقال المكانيّ؛ إنّه طقس عبورٍ بالمعنى الأنثروبولوجيّ الذي وضعه أرنولد فان جينيب (1909)، حيث ينتقل الفرد من حالةٍ اجتماعيّةٍ إلى أخرى عبر مرحلةٍ وسطيّةٍ من الغموض والاضطراب. فالمسافر في أغنية عبد الوهّاب ليس مجرّد شخصٍ يغادر مكانًا إلى آخر، بل هو كائنٌ في حالة تحوّلٍ، معلّقٌ بين عالمين، عالم الأحباب الذي تركه خلفه، وعالمٍ مجهولٍ يسير نحوه وحيداً.
وهذه الوحدة ليست عرضيّةً بل جوهريّةً، إذ إنّ المجتمعات العربيّة التّقليديّة، التي تشكّل فيها الجماعة — سواء أكانت الأسرة أو القبيلة أو الحيّ — الإطار المرجعيّ الأساسيّ للفرد، تجعل من السفر وحيداً فعلاً ثوريّاً وانقطاعاً عن نسيجٍ اجتماعيٍّ محكم. إنه إعلانٌ ضمنيٌّ عن ولادة الفرد الحديث المستقلّ عن سلطة الجماعة والقادر على اتّخاذ قراراته بنفسه. غير أنّ هذه الحرّيّة الجديدة تأتي بثمنٍ باهظٍ؛ فـ”ناسي الأحباب” ليست مجرّد نسيانٍ عاديٍّ، بل هي قطيعةٌ وجوديّةٌ مؤلمةٌ. فالإنسان العربيّ، المتجذّر في شبكةٍ معقّدةٍ من العلاقات الاجتماعيّة، يجد نفسه فجأةً وحيداً في مواجهة العالم.
وهكذا يتبدّى التّوتر بين الحاجة إلى الاستقلال والحنين إلى الانتماء بوصفه جوهر المأساة التي تعبّر عنها الأغنية. ويمتدّ هذا التّوتّر إلى فضاءاتٍ أوسع تتحرّك فيها الأغنية: الطّريق، واللّيل، والمكان البعيد، والذّاكرة، إذ يحمل كلٌّ منها شحنةً رمزيّةً خاصةً في الوعي الجمعيّ العربيّ. فـالطّريق ليس مجرّد ممرٍّ للعبور، بل هو فضاء التحوّل والاختبار. وفي التّراث العربيّ – الإسلاميّ، يرتبط الطّريق بمفهوم “السّلوك” الصّوفيّ، حيث يسير السّالك في طريق معرفة الذّات والحقيقة.
أما اللّيل، الذي يحتضن هذا المسافر الوحيد، فله حضورٌ خاصٌّ في المخيال العربيّ؛ إنه زمن الأسرار والمكاشفات، زمن الحنين والذّكريات. وفي اللّيل تتلاشى الحدود بين الواقعيّ والمتخيّل، وبين الحاضر والماضي. والمسافر اللّيليّ في الأغنية يسير في عتمةٍ مزدوجةً، عتمة الطّريق المجهول، وعتمة النّفس المضطربة.
وأما الذّاكرة، فهي الوطن الحقيقيّ للمغترب. فـ”ناسي الأحباب” تشير إلى محاولةٍ يائسةٍ للنّسيان، إلى رغبةٍ في التّحرر من سطوة الماضي، لكنّ النّسيان هنا مستحيلٌ، إذ إنّ الأغنية نفسها فعلُ تذكّرٍ واستحضارٌ للغائب عبر الكلمة واللّحن. وهذا التّناقض بين الرّغبة في النّسيان واستحالة تحقّقه يعكس معضلة الحداثة العربية، إذ كيف نتقدّم نحو المستقبل دون أنْ نفقد جذورنا؟ وكيف نصبح حديثين دون أنْ نتنكّر لتراثنا؟
وفي هذا السّياق، لا يمكن فصل الأغنية عن صوت محمّد عبد الوهّاب وأدائه المميّز، فالصّوت هنا ليس مجرّد وسيطٍ لنقل الكلمات، بل هو جسد الأغنية وروحها. وفي الثّقافة الشفهيّة العربيّة، للصّوت قداسةٌ خاصةٌ؛ إنّه الوسيلة الأولى لنقل المعرفة والحكمة والعاطفة عبر الأجيال.
لقد جسّد عبد الوهّاب بصوته الدافئ والحميم صوتَ الجماعة التي تخاطب الفرد المغترب، فكان الصّوت الذي يذكّر بالانتماء في زمن الاغتراب، ويحمل دفءَ الوطن إلى البعيد. كما أنّ التّنويعات اللحنيّة والزّخارف الصّوتية التي يؤدّيها ليست مجرّد تقنياتٍ موسيقيّةٍ، بل تعبيرٌ عن التموّجات العاطفيّة للنفس المتأرجحة بين الأمل واليأس، وبين الحنين والعزيمة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الجسد الغائب/الحاضر في الأغنية له دلالاتٌ عميقةٌ؛ فالمسافر يسير “وحده”، أي إنّ جسده منفصلٌ عن أجساد الأحباب، وهذا الانفصال الجسديّ يرمز إلى انفصالٍ أعمقٍ على مستوى الهويّة. ففي المجتمعات التّقليديّة تتشكّل هويّة الفرد من خلال علاقته بالآخرين، من خلال النّظرات المتبادلة واللمسات والأحضان، وغياب هذا التّواصل الجسديّ يخلق أزمة هويةٍ عميقةٍ، ويتساءل من أنا عندما لا يراني أحد؟ ومن أكون عندما لا يعرفني أحد؟
ويمتدّ هذا التحوّل إلى تمثّل أغنية “يا مسافر وحدك” لحظةً فارقةً في تاريخ الموسيقى العربيّة، إذ تجمع بين التّقليد والحداثة بطريقةٍ فريدةٍ. فموسيقيّاً، يمزج عبد الوهاب بين المقامات الشّرقيّة التّقليديّة والتّوزيع الأوركستراليّ الغربيّ، خالقاً صوتاٍ موسيقيّاً هجيناً يعكس حالة المجتمع العربيّ في منتصف القرن العشرين.
ولا شكّ، أنّ هذا التّهجين الموسيقيّ لم يكن مجرّد تجريبٍ فنيٍّ، بل كان تعبيراً عن حالةٍ ثقافيّةٍ أوسع. فالمجتمعات العربيّة في تلك الفترة كانت تعيش صراعاً بين قيمٍ تقليديّةٍ راسخةٍ وتطلّعاتٍ حداثيّةٍ ملحّةٍ. أما الطّبقة المتوسّطة الصّاعدة، التي شكّلت الجمهور الأساسيّ لأغاني عبد الوهّاب، فكانت تبحث عن هويّةٍ جديدةٍ تجمع بين الأصالة والمعاصرة. وهنا يبدو المسافر في الأغنية مجسّداً لهذه الطّبقة، متعلّم بما يكفي ليسافر وحده، لكنّه ما زال مرتبطاً عاطفيّاً بجذوره، طموحٌ بما يكفي ليغامر في المجهول، لكنه لا يزال يحنّ إلى الماضي المألوف.
وهذه الازدواجيّة تعكس جوهر التّجربة العربيّة الحديثة، والسّعي نحو التّقدم مع الخوف من فقدان الهويّة. وتمرّ العقود على إطلاق هذه الأغنية، لكنها تظلّ حيّةً في الوجدان العربي، إذ يعيد كلّ جيلٍ اكتشافها ويُسْقِطُ عليها همومه ومخاوفه. وفي زمن الهجرات الجماعيّة والحروب والأزمات، تكتسب كلمات “يا مسافر وحدك” معاني جديدةً ومؤلمةً.
واليوم، يعيش ملايين العرب تجربة الاغتراب، سواء أكانوا لاجئين هاربين من الحروب، أم مهاجرين باحثين عن حياةٍ أفضل، أم حتى مغتربين في أوطانهم. وهنا تصبح الأغنية مرآةً لكلّ هؤلاء، وصوتاً يعبّر عن آلامهم وأحلامهم. غير أنّ الأغنية تحمل أيضاً بُعْداً تحرّرياً؛ فالمسافر، رغم وحدته وألمه، يواصل المسير، إذ ثمّة عزيمةٌ خفيّةٌ في الأغنية، وإصرارٌ على المضي قدماً رغم الصّعوبات. وهذه الرّوح تلهم الأجيال الجديدة التي تسعى إلى صنع مستقبلٍ مختلفٍ.
ومن المثير للاهتمام أنّ الأغنية تخاطب مسافراً ذَكَرَاً، وليس هذا اختياراً عشوائيّاً، بل يعكس البنية الجندريّة للمجتمع العربيّ في تلك الفترة، حيث كان السّفر والمغامرة حكراً على الرّجال، بينما كان دور المرأة هو الانتظار والحفاظ على الذّاكرة.
غير أنّ قراءةً أعمق تكشف أنّ الأغنية تتجاوز هذا التّقسيم التّقليدي، إذ إنّ الصّوت الذي يخاطب المسافر قد يكون صوت امرأةٍ — حبيبةٍ أو أمٍّ أو أختٍ — وقد يكون صوت الوطن نفسه، الذي كثيراً ما يُؤنَّث في الخطاب العربيّ. وهذا التّأنيث للوطن يخلق علاقةً عاطفيّةً معقّدةً، الوطن/الأمّ/الحبيبة التي تعاتب الابن/الحبيب العاقّ الذي هجرها. فالعاطفة في الأغنية ليست مجرّد مشاعر فرديةٍ، بل هي سياسةٌ بالمعنى العميق للكلمة، إذ يصبح الحنين والشّوق والألم أدواتٍ لبناء الهويّة الجماعيّة، ولخلق رابطةٍ بين المشتّتين، ولمقاومة القوى التي تسعى إلى تفكيك النسيج الاجتماعيّ.
وهكذا تقف أغنية “يا مسافر وحدك” شاهدةً على لحظة تحوّلٍ حاسمةٍ في التّاريخ العربيّ الحديث، لحظة ولادة الفرد العربيّ الحديث بكلّ ما يحمل من تناقضاتٍ وأزماتٍ. إنّها ليست مجرّد أغنيةٍ عن السّفر والفراق، بل قصيدةٌ ملحميّةٌ عن البحث عن الذّات في عالمٍ متغيّرٍ، وعن محاولة التّوفيق بين متناقضاتٍ تبدو مستحيلةٍ، تتجسّد في الحرّية والانتماء، الحداثة والتّقليد، الفرديّة والجماعيّة.
ومن خلال التّحليل الأنثروبولوجيّ لهذه الأغنية، نكتشف أنّ الفن ليس مجرد ترفيهٍ أو تسليةٍ، بل هو مرآةٌ للمجتمع وأداةٌ لفهم تحوّلاته العميقة. فالأغنية الشّعبية، بخاصةٍ، تحمل في طيّاتها حكمة الجماعة وذاكرتها، ومخاوفها وآمالها، وأحلامها وكوابيسها.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثمانية عقودٍ على إطلاقها، ما زالت “يا مسافر وحدك” تحتفظ بقوّتها وحضورها. وفي عصر العولمة والهجرات الكبرى، تكتسب الأغنية أبعاداً جديدةً، إذ لم يعد المسافر الوحيد استثناءً، بل أصبح القاعدة؛ فملايين العرب يعيشون تجربة الاغتراب، سواء في المهاجر البعيدة أو في أوطانهم.
ومع ذلك، فإن الأغنية تحمل أيضًا رسالةَ أملٍ مبطّنة، فالمسافر، رغم وحدته، يحمل معه ذاكرته وهويته. فالأحباب الذين “نساهم” ما زالوا حاضرين في الوجدان، والوطن الذي غادره ما زال يسكن قلبه. وهذه الذاكرة الحيّة هي ما يمنح المعنى للرحلة، وهي ما يجعل العودة ممكنة، حتى لو كانت عودةً رمزيةً عبر الأغنية نفسها.
إن قراءة “يا مسافر وحدك” أنثروبولوجيًا تكشف لنا أن الأغنية العربية ليست مجرد كلماتٍ ولحن، بل هي وثيقةٌ حيّة تسجّل نبض المجتمع وتحولاته. وهي إذ تفعل ذلك، تصبح جزءًا من النسيج الثقافي نفسه، تشكّل الوعي وتصوغ المشاعر وتبني الهوية. وفي النهاية، ربما تكون أعظم قوةٍ للأغنية هي قدرتها على تحويل الألم الفردي إلى تجربةٍ جماعية، وتحويل الاغتراب إلى شكلٍ من أشكال الانتماء، انتماءٍ لجماعة المغتربين الذين يجدون في الأغنية وطنًا بديلًا، مؤقتًا ربما، لكنه حقيقيّ بقدر حقيقة الألم والحنين اللذين تعبّر عنهما.