قصّة قصيرة جدّاً
أمامَ تلك المنصّةِ الكبيرةِ احتشد العديد من عدسات المصوّرين الإعلاميّين ، مع آلات تسجّيل معدّة لنقل وقائع ذلك المؤتمر الصحافي الذي دعا إليه الوزير السابق .
كرش الوزير مندلق أمامه ، يهتزّ اهتزازات مخيفة . عيناه الذئبيّتان ترقبان باهتمام كبير النشاط المنقطع النظير للإعلاميّين ، وتدوران في وجه ثعلبي ، فتخفيان خلفهما ما تخفيان.
تنحنح ثم استوى قليلاً ،مجّ من عبوّة ماء حملها مرافقه معه خشية أن يدبّر أحدهم له سوءاً، فالاحتياط واجب ، وشرع يعدّد أنواع السوس اللعين الذي نخر ، ولا يزال يعمل نهشًا في جسد الخزينة التي أضحت خاوية تشكو هزالاً شديداً أصابها ، ولم يفته ذكر الفاسدين الذين استباحوا حرمتها حراماً ، ولمّا توقّف قليلا ليمسح العرق الذي زخّه في عزّ البرد ، قال:
– هل من أسئلة لدى الأحبّة أو استفسارات؟ أنا في خدمتكم ، ومصمص شفتيه بلسان طويل قد يتجاوز أرنبة أنفه ، أين منه لسان الضفدع الذي يطول الناموس والهوام والحشرات الأخرى من بعد؟
أغمض ذلك الصحافيّ الذي “شرب من حليب أمّه” عينيه ، وطفق يستعيد شكلَ جسدِ هذا الشخصِ المخيفِ من هزالٍ أصابه قبل تسلّمه المنصب ،ثمّ أخذ يصبّ نظرات العتب على وجوه زملائه الصامتين صمت الجبال ،
وتوجّه إليه يسأله:
– معاليك ، لمَ لم تُفض علينا بهذه الدّرر النفيسة قبل مغادرتك ذلك الكرسيّ المعلف . عفواً ، الموقع الكبير؟
زمّ الوزير بوزه ، وقطّب جبينه ،وعقد بين حاجبيه ، وشرع يرشق مساعده بنظرات حادّة مستفسراً . فنفض المساعد قميصه مرّات ، وهذه الحركة تعني أنّ هذا الصحافي ابن حلال .
عند ذاك تنحنح الوزير وقال:
-علّمني أبي أن لا أفتح فمي عندما يكون محشوّاً طعاماً.
– أحلالاً ما كنت تخضمه تارةً ، وتجترّه أخرى على مهل أم حراماً، أخبرنا؟
أشاح المتكرّش المذياع بيده، وغادر القاعة على عجل تاركاً وراءه أسئلة عديدة تنسرب إلى أذنيه ، وترتدُّ حسيرةً من دون إجابات .
استدار الإعلاميّ ومضى ، تاركاً في القاعة فراغا كبيراً ، وسط صمت أولئك الإعلاميين الكثر الذين نالوا من حليب تلك البقرة التي احتلبها المتكرّش طويلاً ،ما سدَّ على أفواههم الأسئلة العديدة وأخذ يردّد:
– إعلام آخر زمن ! آخر زمن !