التعالق أو بالأحرى التعشيق مع الفلوكلور لدى الرحابنة، هو الصانع الحقيقي لسور المدرسة الرحبانية، وهو أيضاً مجموع البذور التي بذرها أصحاب هذه المدرسة في حقل المدرسة يأسره، التراث بالنسبة للرحابنة هو النواة التي تدور حول خلية النغم الرحباني من أساسه، بل هو الذي أسس لهذا النغم داخل أنماط التفكير في الموسيقى لدى هذه الأسرة الفنية العريقة، والذي شكل فيما بعد النسيج الكامل للنغم الرحباني، مع كافة الملحنين الذين تعامل الرحابنة معهم، وكافة الشعراء من صانعي الكلمة أيضاً، ذلك ملحوظ أكثر في رأيي، إذا ما كانت الكلمات والألحان للأخوين رحباني أنفسهما، سواء منصور أو عاصي، أو كلاهما في بعض الأحيان حين يشتركان في كلمات الأغاني، وحصل هذا في أكثر من أغنية.
كلمات هذا النغم الذي سنستعرض بعضاً منه هنا، التي ألفها منصور الرحباني، لعمري أنه صنعها من عجين طين أنطاليس الضاحية الواقعة على بعد عشرة كيلو مترات من بيروت الملهمة، ولعل المايسترو منصور الرحباني، توخى فيها الحذر والدقة في أن يكون لها عطر الأصالة العابق بذلك المكان، ليمزجه مع الأثر القديم لمدينة بعلبك، وترابها المتناثر تحت سنابك الخيل العربية البيضاء، هذه الأغنية سواء لحنها الممزوج بالتراث اللبناني القديم، أو كلماتها البديعة هذه، تنسحب بدقة عالية على الأصالة والغنى الممزوجين باللهفة على المكان ومن فيه وما فيه، بشر وطير وحجر، ثم أن السيدة فيروز كانت هي الجوهرة التي لا تفنى إزاء كل هذه الأصالة والعبق التاريخي المنحوت والغير قابل لمؤثرات الأمطار الحامضية، إنه باق بلا نهاية، لهذه الأسباب بالتحديد، كنت أستدرك حالة الأغنية التراثية سواء العربية كهذه، أو المحلية الليبية التي تتشابه بشكل أو بآخر معها، تلك التي تعب محمد حسن وعلي ماهر وسلام قدري، وكذا يوسف العالم وغيرهم كثيرين، على إخراجها في بلادنا سليمة معافاة، الحقيقة أن لبنان موسيقياً ومع الرحابنة بالتحديد، كان دائماً (معلم). هذه الكلمات الموسومة بـ “لوح منديلك لوح” لا تشير إلى ما تقوله، بل إلى ما تريد قوله حول المكان كونه مقدس ولا يمكن خدشه، بل وجب الغوص في ملكوته حد الوله، والدفاع عنه، علامات العشق هنا ليست كما نظنها أو كما هي مألوفة، إنها مجموعة الإشارات التي لا غنى عنها لفهم قداسة الوطن ومعناه:
وطليت ع بعلبك بعد عشرين سنة
اسأل اذا شافك حدا تيدلني
لاتقول منك هون بعده عالدراج خيالك
وبعدك طايرة فيك الدني
لوّح منديلك لوّح لوّح مشتاق
وتفاح خدودك لوّح صار بدّه دواق
الحلواية عم تدلل يا قلبي
دوب نصحتك توب من الاول
ماكنت تتوب كرمالي
قوم تسهل والدنيا غروب بلكي
عالهجر تحول خاطرها وراق
بالجيرة كنتي صغيرة وفي جار صغير
صغيرة وفي قصة كبيرة ربيت بكير
رجعني لهاك الجيرة ياعمر كبير
ورجع ايام الغيرة ونار العشاق
بيتك عالعين الفوقة بيتك موصوف
وغيمات السهل الزرقا عابوابه ضيوف
وسطيحات اللي فوقها معجوقة رفوف
حساسين بترحل جوقة بتطل جواق
لما ع بعلبك جينا جينا والخيل
الخيل البيضا تحيينا من ميل لميل
صرنا شراع بلا مينا تايه بالليل
ينده فينا ماضينا ايام عتاق, ـــــــــــــــــــــــــــــــ
تأملات في الموسيقى الرحبانية أ.د. نورالدين سعيد