اختلافات في الآراء النابعة من الإدراك الحسي لموضوع معين، والحقائق التي تحصل في العالم.
إشادات شخصية – من تجربتي الخاصة.
نحمل هوية اللغة العربية، لكنها تعد لغة الأقليات في أستراليا، تحمل أستراليا في خاصرتها صخرة التحدي، تعدد الثقافات واللغات، تحدي كبير. لذلك لا يمكننا اعتبار لغتنا العربية ثنائية هنا، وتعتبر اللهجات العربية المتحدث بها غير موحدة أيضا، فالعراقي لا يتحدث اللهجة الفلسطينية، والمصري لا يتحدث اللهجة المغربية الخ.
لغتنا العربية غائبة في الأماكن العامة في أستراليا، وفي الشوارع، وفي محال بيع الكتب والمجلات، اشتهي رؤية مشهد المجلات والصحف في الشارع كما هو في أوطاننا، إلا في أماكن محدودة جدا في سيدني، وبعض المكتبات العامة في أستراليا.
اللغة باعتبارها “البناء الرمزي للفضاء العام” لم تعد تمثلُنا. خرجت نتائج الكثير من البحوث، ضمن نظريات الهوية الجماعية، والعرض الذاتي، والاختيار العقلاني، بأننا نعيش فترة الانفتاح على ذات الآخر بلغة مهيمنة وهي اللغة الانجليزية. وحتى نستخلص المزيد من النتائج حتما، يجب توسيع الدراسات حول الموضوع.
من النتائج السلبية التي تحدث يوميا:
إخفاء، أو إظهار الهوية في المنطلق العام: لغة السياسة في السياسة مثالا، ولغة داعمي أجندات دينية وعنصرية أيضا، والأقوياء الذين يتمتعون بحصانة كاملة، ولا يستطيع الفرد العادي الاعتراض، يعني القوي يكتب التاريخ وينسف الحقائق.
تأثير اللغة على هوية الآخر: 1. الإعلانات في الشوارع: ترجمت بشكل لا يخدم صاحبَها، إما أن تكون الترجمة غير دقيقة، أو تترجم عمدا لمصلحة جهة معينة تؤدي إلى صراع بين الطوائف والقوميات، وهذا الشيء منتشر في نواحي العالم أجمع، الانسان العربي تشتت في جميع بلدان العالم، حتى انه وصل إلى القطب الشمالي، كما قيل لي.
لنذهب إلى الدولة اليهودية: مثلا، في القدس، أورشليم، المدينة العتيقة، والأثرية والتاريخية، هناك في السور 11 بابا، منها 7 مفتوحة، و4 مغلقة، وتحمل أسماء متعددة. أكثر الأبواب المستخدمة اليوم، (باب العمود)، ويؤدي إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، سمي بهذا الاسم نسبة إلى عمود من الرخام الأسود، وضع في الساحة الداخلية للباب في الفترة الرومانية والبيزنطية، بواسطة هذا العمود، قيست المسافات عن القدس، يسمى بالإنجليزية: “باب دمشق” لأن القوافل كانت تخرج منه متجهة إلى دمشق. وفي العبرية ” شاعر شخيم” بوابة نابلس، كونُه على الطريق المؤدية إلى نابلس، أما باب الخليل أصبح ” شاعر يافو”، وباب الجديد ، ” شاعر هحداش” ، وباب الزاهرة “شاعر هيرودس”، واسم باب ستنا مريم تحوّل إلى “شاعر هأريوت”، أو باب الأسباط، وفي القسم العربي من القدس الشرقية، أزيحت جميع الاعلانات القديمة أسماء الحارات، والزقاقات من يوم الانتداب، وضع مكانها أسماء أخرى، مثلا شارع الشهيد كذا، شارع الانتفاضة الأولى، الخ، وأطلق على شوارع كثيرة في المناطق التي يقيم فيها العرب في القدس بأسماء جديدة، شارع أم كلثوم مثلا، كانت سابقا بلا تسميات.
مثال آخر: في الانتداب البريطاني، كُتب بإعلان ضخم، بالانجليزية اسم أهم شارع في القدس، طريق الملك جورج، تحوّل إلى العبرية وأصبح ” رحوب هميلخ”. شارع الملك بدون جورج. مش طريق، شارع، والأمثلة كثيرة جدا ليس فقط في القدس، وإنما أيضا في بعض المدن الفلسطينية، التاريخية، المختلطة، والقرى المهجرة، جميعها اكتسبت أسماء عبرية، حتى أن الفلسطيني الآن لا يعرف اسم قرية أجداده وعوالمَها الأساسية، تحولت التسميات إلى عبرية، اللد مثلا لِدا، وغيرها من الأمثلة. مئذنة جامع النبي صالح في الرملة، بناها الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، أصبحت “همغدل هلبان”، يعني البرج الأبيض.
قامت باحثة معيدة في جامعة تل أبيب تدعى إيلانة شوماني، في بحث مطول حول تأثير اللغة في الهوية، خاصة الهوية العربية في الدولة اليهودية، سمي البحث Linguistic Landscape، في العبرية ” نوف ليشوني”، في العربية المشهد اللغوي. استخلصت: هناك أجندة مقصودة، سياسية، متقصدة لتغيير التسميات، يعني محو تاريخ بشري طويل، وهوية الانسان، ليس تهويد الأرض فقط بل أيضا التسميات. ناهيك عن اللغة العربية، في المدن المختلطة اللد والرملة ويافا وحيفا، تروح اللغة العربية إلى الانقراض، تقل الظاهرة في القرى العربية التي لا يسكنها سوى الناطقين بها، يعاني العربي من ازدواجية اللغة، في البيت وفي مجتمعه يتحدث العربية، لكن في العمل يتحدث العبرية. ونحن نعلم أن اللغتين العربية والعبرية متشابهتان، لغة سامية، لذلك سهل التحدث بها.
أما في أستراليا، لنعد إلى هنا، وفي بريزبن ولاية كوينزلاند، وتحديدا حيث أقيم، بعد جهد جهيد أضيفت قبل سنوات قلائل، اللغة العربية بجانب لغات ثلاث أخرى في الاعلانات الموجودة في شارع الملكة فقط، Queen street، أهم شارع هنا.
أطلقت الطبيبة النفسية السورية مريم سمعان على هذه الظاهرة، قالت:” (الموت الثقافي) نحن نموت ثقافيا، شعوبا وقوميات في بلاد غير أوطاننا. نحن نموت ثقافيا”، حتى إلي بيجي لهون غير مثقفين، وبدهم بس يسهروا ويشربوا ارجيلة وينبسطوا، وهذا الشأن يلزمه بحث آخر..
في بريزبن، في مكتبة الولاية، في بداية هجرتي، حصل وطلبت كتبا في العربية، تحصلتُ على 30 كتابا فقط منها ثلاث عناوين تُقرأ، ويوجد 33 مكتبة عامة، منها أربع مكتبات فيهم زاوية اللغة العربية فقط، يعني بمعدل 20 كتاب فقط، منهم كتبي. نعلم جميعا أننا شعب لا يقرأ، وأن الكتب الصادرة لأدباء عرب في أستراليا، تفوق عدد القراء العرب، يوجد نتاج لكن لا يوجد قراء، سؤال آخر وهو: كم هي نسبة العرب الذي يقرؤون الانجليزية، لأدباء يكتبون بالانجليزية؟ لا علم لي حقيقة!
أما بالنسبة للسكان الأصليين في أستراليا، أظن انهم في مرحلة متقدمة من ما يسمى (الموت الثقافي) رغم المحاولات لإحياء ما حصل ونسي، هم عدة قبائل، وكل قبيلة اتخذت لها لغة، أو لهجة معينة، لم تتفق القبائل على الحياة معا، ولا على لغة واحدة، وذلك قبل وصول الرجل الأبيض إلى القارة الجنوبية، لكن هناك أقلية ما، وضعت نقوشها على صخرة أولورو، معناها الحصاة الكبيرة. زيّنوا الكهوف الموجودة في الصخرة بالرسوم، وتعتبر الصخرة، مقدسة جدا، موجودة في وسط القارة، اكتشفت سنة 1872 على يد مكتشف من السكان البيض، يصعب الوصول إليها، بسبب الطقس الصحراوي القاري، وبسبب تكلفة الرحلة إلى هناك، لذلك يحبذ السائح الأسترالي تحويل جهته إلى أماكن أخرى خارج القارة، أرخص له.
وبقي ما تركه الأوبرجين مخفيا، لكن هناك زاوية خاصة لتراثهم في كل مكتبة عامة، وفي كل ركن ثقافي، هم بالنسبة لنا الشعب الأول والأصيل، أقلية قليلة، لكنه يبقى حسب رأيي الشعب الثاني، مهما كانت هناك جهودا لتبديل الوضع، على سبيل المثال، تحتفل الآن بريزبن في شهرها السنوي، بمهرجان يضم 1000 فعالية، في يوم الافتتاح، ولأول مرة قامت الطائرات الصغيرة بدون طيار، وعددها 400 طائرة بعرض خلاب، حكت عن قصة مشهورة جدا من التراث الأبرجيني، رسمت في الأجواء رموزا تعود إلى الشعب الأصيل، صراحة، لا يوجد اطلاع كامل على التراث القديم في أستراليا، أنا شخصيا بحثت مطولا عن كتب تحكي عن التراث المذكور، لم أجد سوى القليل منه مترجم إلى العربية، ولولا د. نجمة حبيب في كتابها الكبير (وجوه معاصرة) لنقصت لدي المعلومات، كلما أردت شيئا ذهبت وبحثت فيه، يعطيها العافية ويزيدنا من أعمالها.
قرأت بعض الكتب التي كتبت بأقلام أسترالية تحكي عن التراث، بالكاد استطعت الحصول على المزيد، حتى أن النسخ قليلة في المكتبات العامة، يجب التوصية وانتظار عدة أسابيع حتى يمكننا الحصول عليها بالانجليزية، ممكن الحصول على مواد تفسيرية، لكن المواد التي تتحدث عن أساطيرهم يجب دفع ثمن اقتنائها إلى جهات أوبورجينية معينة، مبالغ باهظة جدا، وصراحة وبعد تجربة، التعامل مع هذه الجهات صعب جدا، والحرص إن زاد عن حده نقص، تبادل القراءات والخبرات يبدو لي مضحكا، أقصد السكان الأصليين والمهاجرين الجدد الذين أتوا إلى أستراليا.
استطعت قراءة ما كُتب عن السكان الأصليين في نيوزيلاندا، الماوري، والهنود الحمر في أمريكا، هناك رواية To Kill a Mockingbird- أثرت بي كثيرا خاصة الشخصية المركزية فيها شخصية Atticus Finch.. “أن تقتل الطائر المحاكي” رواية أمريكية كلاسيكية تدور أحداثها في مدينة مايكوم الخيالية بولاية ألاباما – والتي، مثل العديد من الأماكن خلال فترة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، ابتليت بالتحيز والعنصرية. تكشف الرواية، التي كتبها كاتب غير معروف يدعى هاربر لي، تكشف موضوعة الأخلاق، والمسؤولية الفردية، والمسؤولية المجتمعية، وما يعنيه حقًا الدفاع عن ما تؤمن به.
عملتُ شخصيا على بناء شجرة العائلة، عائلتي، بعد أن استبد بي الفضول، بحثت، ونبشت، النكش في الماضي، عملت في المشروع عدة سنوات، اكتشفتُ أشياء قليلة عن الجد الأكبر الذي رحل من أوروبا متجها إلى الشرق الأوسط قبل مئات السنين، بدأ في بناء الشجرة أولاد العمومة المعمرين، يقيمون في أمريكا، ألحوا على تكملتها، خاصة الفرع الذي بقي في فلسطين، جدي الذي ولد في مدينة اللد سنة 1889، وتوفي فيها، ولم ينزح عنها في النكبة، خرج والده من سوريا سنة 1883 قاصدا فلسطين، في الحكم العثماني.
ألفت كتابا عن سيرة جدي الذاتية، وما حصل في النكبة، حملته معي في زيارتي الأخيرة إلى البلاد، فوجئتُ بأن القراء من العائلة لا يتقنون العربية، بل العبرية، والكبار منهم، لم يعتنوا بالموضوع كثيرا، حينها أحسستُ بفقدان شيء ثمين جدا، القيمة الأدبية، والنضال من أجل الأدب والثقافة واللغة، والهوية، أحسستُ بفشل ذريع، أهدرتُ وقتي عبثا، لكنني تذكرت ما شَهِدَ به السيد المسيح ” ليس لنبي كرامة في وطنه ” (إنجيل يوحنا 4: 44) لا بدّ نطقها باللغة الآرامية، أو ربما باللغة العبرية القديمة.
مؤتمر سيدني أستراليا 2023 – الانفتاح على الذات