فتحية دبش
أتابع الجدل القائم حول رواية حيزية وهي النص الروائي القادم للروائي واسيني لعرج والتي تثير جدلا واسعا في الوسط الثقافي الجزائري. وبعيدا عن منطقة التوتر او البوز أو السقوط على الحدث فإني اقدم وجهة نظري انطلاقا من اهتمامي بثيمة الرواية بين التخييل والتوثيق
فالرواية كما اصطلح عليها هي عمل إبداعي ركيزته التخييل حتى وإن استندت إلى الواقع أو التاريخ ولا يمكن بالتالي التعاطي معها على أنها وثيقة تاريخية أو توثيقية حتى وإن قدمت للقارئ “حقيقة” ما. وأما التوثيق فهو عمل يستند إلى معطيات حقيقية حتى وإن قدم رواية تختلف عن المتداول الشفوي. بل غاية التوثيق هي مركزية الوثيقة وجعلها رسمية وتهميش ما يخالفها. يقدم لعرج روايته بمعنى وجهة نظره استنادا على قصيدة بن قيطون وقد نشرها واسيني على صفحته الفايسبوكية وتداولتها بعض المواقع أيضا. ويقول في وجهة نظره التي اعتمدها في تشكيل روايته أن بن قيطون هو الحبيب الفعلي لحيزية وليس ابن عمها سعيد، ويضيف أنها ماتت مسمومة ولمّا تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها
ما يثير الانتباه في تصريحات واسيني هما شيئان بنظري. الأول أنه استند إلى حقيقة النص الشعري بما أنه نص موجود، والثاني هو زيارته الميدانية والبحث عن أوجه أخرى للحكاية من أفواه الناس والعارفين بها عن طريق السماع والتداول. وهذا المنهج يبين وعي لعرج بخطورة هذه الحكاية من جهة وأيضا وعيه بوجوب البحث عن ” الحقيقة” من خلال تقاطع الروايات الثلاثة: المكتوبة وهي القصيدة، والرسمية وهي قصة الحب العذري بينها وبين ابن عمها وموتها الطبيعي، والرواية الثالثة التي جاءت على ألسنة الناس الذين التقاهم ولسيني في رحلة بحثه. والتقاطع بين الروايات هو منهج استقصائي يعتمده أهل البحث والصحافة
أما وجهة النظر المضادة والتي يتبناها الشق الرافض لاستنتاجات واسيني والتي تنفي مسألة موتها مسمومة كما تؤكد حقيقة حبها العذري مع ابن عمها سعيد، وتنزه بن قيطون عن فعل الحب والتغزل بحيزية نظرا لكونه شيخا متدينا فهي تستند إلى الرواية الرسمية التي تراعي في مثل هذه الحكايات ثقافة المجتمع المحافظة والتي تقول كما ذكرت أعلاه أن العلاقة بين حيزية وسعيد هي علاقة حب عذري شاء القدر أن يضع لها حدا بموت حيزية في ريعان الشباب. وبالتالي فإن حيزية أصبحت في المخيال الشعبي والرواية الرسمية أيقونة الحب العذري. وهي الرواية التي تستمد أهميتها من مركزيتها أولا ومن غاياتها التي تتمثل في تشكيل الوعي بالعفة وتثبيته ثانيا
من خلال وجهتي النظر هاتين نستنتج حسب رأيي سلطة الأنساق الثقافية الظاهر منها والمضمر
فالروايات الرسمية عن كل قصص الحب التي وصلتنا تتشكل في مدار الحب العذري وما يسمى بالعفة. وغالبا ما تنتهي هذه القصص نهايات تراجيدية بإيجاد عامل مشتت قد يكون الموت كما في قصة حيزية أو الزواج القسري كما في قصص أخرى أو الرحيل كما في المعلقات مثلا. وهذا العامل المشتت او المنهي لقصة الحب ليس إلا سعيا من الثقافة إلى فرض ذاتها الواعية بخطورة فعل الحب وخاصة بخطورة أن تقع امرأة في الحب لأن العفة لا تتعلق بجسد الرجل بل بجسد الأنثى أساسا. وهذه النهايات الحزينة والمأساوية ليست إلا رفعل للجسد من مصاف المدنس إلى مصاف المقدس و تأكيدا وتذكيرا بسلطة نسق العفة. وغاية هذا التذكير هو تسييج جسد الأنثى وتحويله إلى أداة ردع واخضاع
أما النصوص ففيها من الإشارات إلى عكس ذلك الكثير (انظر مثلا قصيدة بن قيطون في حيزية بما أنها مثار الجدل الدائر في الجزائر هذه الأيام). فهو يتحدث عن جسد الحبيبة حديث الرؤية لا حديث الرؤيا. ويثبت جملة من الإشارات والطقوس كطقس الوشم على جسد العاشق أو المعشوق أو هما معا، وهو فعل متداول يتمثل في تخليد قصة الحب على جسد الرجال خاصة بما أن الثقافة لا تقدسه تقديسها لجسد الأنثى. ولكن الوشم الذي يشير إليه نص القصيدة موجود على جسد حيزية وهو الاشارة على تمرد الجسد الأنثوي وخرقه للموانع والتحذيرات وارتقائه إلى المنطقة المدنسة حيث يقيم جسد الرجل وأيضا على التملك التام لجسد المحبوبة من طرف المحب/الحبيب وبالتالي حلول الحبيبان في جسد واحد وتخليدهما ذلك الحلول بالوشم
ونص القصيدة بنظري يضع الجميع بما فيهم واسيني في مأزق الحقيقة والرواية الرسمية من جهة ومأزق التخييل أيضا
فإذا كانت الحقيقة هي ثبوت الحب العذري بين حيزية وسعيد فإن بن قيطون يستعيد مكانه كشاعر يقوم برفع الحدث العادي إلى أيقونة من خلال تأكيد الصراع بين الحب وموانعه الأقصى أي الموت عبر التخييل. وإذا كانت الحقيقة هي أن بن قيطون لم يكن هو العاشق الحقيقي فإن واسيني يقع في مأزق الخلط بين الذات الشاعرة والذات الموضوعية بحيث لا يفصل بين بن قيطون الشخص وبن قيطون الشاعر وبالتالي التعسف على شاعرية الرجل وعلى شخصه في آن بل التعسف أيضا على أيقونة رجل الدين التي تقوم على الترفع على بشرية البشر والتغلب على غواية الجسد وبالتالي تثبيت سلطة نسق العفة عبر التخييل ايضا
ومهما يكن من أمر الرواية بين الحقيقة والتخييل فإن الصراع الحقيقي هو صراع أنساق. نسق المقدس من جهة حيث ينتفي الجسد ونسق المدنس من جهة أخرى حيث يكون الجسد ويحضر بشدة
والاحتكام إلى النص في نهاية المطاف يقطع سبل الجدل ويغذيها في آن، إذ هو الوثيقة التي تخالف الرواية الرسمية بل يتحول إلى رواية رسمية مضادة للأولى من خلال وجوده بالفعل وبالقوة. رواية تعيد للجسد الأنثوي مركزية وتهرّيبه من مساحة التغييب إلى الحضور الفاعل
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل