بعدما عاين أحفادي الأثمار ، وحكوا لسيرين وليا ومريم ما جرى في معرض الفاكهة عدنا نستريح قليلاً على البساط السندسي الأخضر الذي أضاف فيه عشب النجيل ” الغازون” إلى جمال الحديقة المزدانة بالورود والأزاهير والأشجار المتعانقة في أبهى وئام، والتي يداعب الهواء العليل أوراقها التي تتمايل على
مهل.تركتنا سارة جالسين نستمتع بهذه النعمة الإلهيّة. وراح نادر يلاحق فراشتين جميلتين تطيران معاً، ثمّ تحطَّان على طبق الورد معاً، ولمّا رأى سارة تحمل الزهرة تبعها
عادت سارة مسرعةً حاملةً نبتةً مستديرةَ الشكلِ ، تُكلّلها زهرات بيضاء شبيهة بالقطن الناعم، فأخذ علي يلمس بتلاتها التي بدأت تتساقط على مهل، بدت، تلك اللحظة، باكيةً. كلُّ زهرةٍ تحمل بذرة، مزوَّدةً بعودٍ صغير وقاسٍ في آن… هززت رأسي مبتسماً
فسألت سارة
– ما اسم هذه الزهرة يا جدّي ؟
شرعت أحدّق إلى الزهرة تارةً وإلى حبّاتها أخرى.وأجبت
– إنّها زهيرات الأمل ، ونسمّيها العورنين
الأصيل
-أراك تنظر إلى هذه الزهرة وتبتسم ، ما الأمر يا جدّي ؟ سألت مريم
– أنظرُ إلى خلق الله العجيب
– تنظر إلى خلق الله، ماذا تعني؟
طارت البتلات، حملها الهواء، فبدت القطنيّة المثبتة في رأسها مظلّة ترفعها، مساعدةً إيَّاها على الطيرات
تبعتها، وتبعنا الأحفاد بفضولية من يريد معرفة سرِّ هذه الزهريّة وسألت سيرين
– كيف تطير بذرة يا جدّي ؟
– هذه المظلّة مكلّفةٌ بحمل البذرة التي ترونها الآن
– وأين وجهتها ؟
– سوف نرى معاً الوجهة التي تقصدها
طارت قليلاً ، وسرعان ما حطَّت على تربة مشبعة بالماء، وشرع العود الصغير يحفر في الأرض الرطبة، ويزرع تلك البذرة بنفسه
– سبحان الله! (قلت)
– من علّم هذه البذرة فنَّ الزرع؟ ولمَ اختارتِ الأرضَ الرطبةَ ؟ سألت ليا
– الله، سبحانه، عندما خلقها، زرع فيها سرّ البقاء
– وإذا لم تجد أرضاً رطبة ماذا تفعل؟
– تُحلّق من جديد. باحثةً عن ضالّتها المنشودة
أغمضت عينيَّ، وشرعت أستعيد حكايةً سمعتها عن مسار زهرة الحب هذه. قال محدّثي: عندنا، يسمّونها “سارقة الكشك”
– ماذا تعني بذلك ؟ قلت
– تطير الزهرة باحثةً عن رطوبة ما، وخلال طيرانها تمرُّ فوق طبق عليه كشك رطب، فتظنّه المكان الصالح للزرع، فتنزل وتحفر فيه بوساطة العود
– وبعد ذلك ، ما الذي يجري ؟ سألت مريم
– عند الظهيرة يجفُّ الكشك، فتعلم أنّه ينبغي عليها البحث ، مجدّداً ، عن تربة أخرى، فتعاود الطيران ، حاملةً على عودها بعض حبيبات الكشك . فيظنّ الناظر إليها أنّها تسرق منه ، في حين إنّها تحمل ما علق ببذرتها التي تبحث عن المكان الأصلح الملائم لإنباتها من جديد
– سبحان الله. (قلت بصوت مسموع)
ولمَّا قصصت على أحفادي قصَّة الكشك أردفت
-أعرفتم الآن معنى عبارتي: أنا أنظرُ في خلقِ الله؟ فمن علّم هذه الزهرة طريقة الزرع المثالية الواعدة بإنباتها من جديد في ميقاتها المعروف مسبقاً غير الخالق القادر على ذلك.وسرعان ما ردّدنا معاً: سبحان الله العلي العظيم
قبل مغادرة الحديقة واتتني فكرة أن أصوغ حركة هذه الزهيرات من جديد فطلبت إلى أحفادي الاستماع إلى ما أراه مناسباً ومنسجماً مع طموحها إلى التجذر والبقاء ، ولمّا رحَّبوا بالفكرة أنصتوا ، فقلت
زهيرات الحبِّ والأمل
داعب النّسيم زهيراتها، فغنّت طرباً وطارت
تبحث عن أرضٍ، عن رحمٍ دافئٍ، عن ماء ونماء
مظلَّتُها قطنيّةٌ، محراثها عود مثبّتٌ في أصلها
بذرةٌ ، أجل، هي بذرةٌ تبحث عن وطن
وصلت. تعرّفت الماء والظلَّ والرحم
غمزت البذرة مظلتها، أومأت إليه
إلى عودها، أن استعدّ
وهبطت، رويداً رويداً هبطت
شرع العود يحفر في التراب ،ولمّا احتضنها التراب واستراحت
شرعت تحلم بزهيرات حبّ تنمو على
أمل جديد
على وطنٍ جديد
على حياةٍ جديدة
سبحان الله . سبحان الله
قبريخا- جبل عامل د.علي حجازي
غرفة 19
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران