د. شهاب القاضي
{أ}
“نقاط الضوء والضوضاء” للقاص والاديب الكبير احمد محفوظ عمر، قصة تعيش خارج مجموعاته القصصية التي أصدرها القاص حتى الان {1} ولكنها أقرب إلى الصلة مع بعض قصص مجموعته الأخيرة ” يا اهل هذا الجبل ” من حيث المحمول القيمي والفكري للقصة، او بما تحمله من رؤيا إلى العالم، الامر الذي يجعلها وكأنها تلوين مغاير بعض الشيء لإحدى قصصه القصيرة على سبيل المثال لا الحصر قصة ” هوامش وابعاد ” وذلك من حيث ما تطرحه كل قصة من أسئلة تمس مصير الوجود البشري وغير ذلك من قضايا الوجود الإنساني التي مازالت مدار بحث وستبقى في المستقبل كذلك ما بقي الإنسان
لكن السؤال هنا: الا تحمل القصة تميّزا ما على صعيدي الفكر والفن … وكيف لنا ان نرى اليها في مستوى وجودها الخاص والمتفرد؛ وجودها كنص متموضع ، وذلك عوضا عن التفكير والبحث عن العناصر المشتركة او عن شراكتها مع بقية اعمال القاص الأخرى مما يهتم به مؤرخ الادب ويعد ذلك من أولوياته ؟
على هذا المستوى، تحاول هذه المعالجة النقدية اكتشاف وتحليل بنى النص ووسائله الفنية وما يحمله من رؤية إلى العالم وما يسكنه من كائنات واشياء تجعل من قصة “نقاط الضوء والضوضاء” من النصوص القصصية البارزة لرائد القصة اليمنية القصيرة الاديب أحمد محفوظ عمر
قصة ” نقاط الضوء والضوضاء ” {2} يمكن اختزالها على انها قصة الانسان في مواجهة الموت او الفناء أو هي وعي الموت في الوقت الذي يبلغ وعي الحياة ذروته وليس هنالك من خيار مطروح للأخذ به – غير ذلك القبول المأساوي بأن الانسان انما هو وجود – من اجل – الموت على حد تعبير هايدجر وكل ما نعرفه هو تكرار حدوث هذه الظاهرة – أي الموت – وفي تكرارها لا يتملكنا غير الشعور بانها انما تحدث لغيرنا، نحاول ان نخلق مسافة ما بين موتنا وموت الآخرين. في محاولة منا في ان يبدو الموت امرا خارجا عنا لا يعنينا، انه موتهم الخاص بهم. وهذا شيء يعنيهم
لكن أي حركة نبذ او خلق مسافة على صعيد الوهم الجميل بالرغبة في الخلود وفي رفض الموت يقابلها على المستوى نفسه الشعور الأسيان بالمفارقة والاعتراف بأن الحياة قصيرة … هذا ما تحاول ان تقوله قصة ” نقاط الضوء والضوضاء ” فكيف يبدو هذا القول فنيا، وكيف يتمظهر لنا نصا يمتلك وسائله وطريقته في النظر الى هذا العالم؟
يستهل القاص أحمد محفوظ عمر قصته بسقوط الظلام على المدينة ذات صباح بعد ثلاث ساعات من بدء العمل في تمام الساعة العاشرة وعشر دقائق ” قوبل الحدث المفاجئ من قبل الأهالي بالفزع والارتباك، حملقوا في ساعاتهم الصغيرة والكبيرة إذ غامت السماء فجأة وحجبت قرص الشمس عن الارض … وأعقب ذلك ضباب كثيف سرعان ما تحول الى كتل من الظلام ” وكأنها ” ليل حالك، فانتشر الخوف وقلبت موازين معتدلة وارتبك النظام، وتوقفت الحركة، ولهجت الالسن بذكر الله وبتكهنات الغيب وسط وجيب متلاحق لقلوب خائفة ضعيفة “
وإزاء ذلك، وعبر سبعة مقاطع وفي زمن قدره اقل من خمسة واربعين دقيقة فقط وهو زمن القصة … يضعنا القاص أمام حالات الهلع والخوف التي تنتاب الناس ففي المقطع الأول ، في صالون الحلاقة ، تنتاب الزبون الذي شارف عمره على الخمسين عاما حالة ذهول بعدها يغادر الصالون ولم يستكمل حلاقة نصف شعره المتبقي … اما المقطع الثاني ، فانه ينقلنا الى باص للركاب يتجه من مدينة الشيخ عثمان الى مدينة كريتر وقد حدث فيه هرج ومرج ، خوف وهلع … يقرر بعدها احد الركاب وهو شيخ ملتح : ان ما يحدث ما هو الا علامة من علامات الساعة. وفي المقطع الثالث ندلف الى مقهى الشباب القريب من دكان البقال “على عبد العالم ” حيث بقيت الاكواب مترعة بالشاي، وممتلئة نصفا وقد تجمد من حولها الشاربون وعيونهم شاخصة في المتاهات الظلماء. وهذا ما يحدث بالضبط للرجل الخمسيني في المقطع الرابع حيث يتجه خائفا الى بيته يستغفر الله ويمجده ، يصلي هو وزوجته وبعد ذلك يقومان بتناول الشاي ، وفي هذه الاثناء ، وفي حالة من الخوف والخشوع يعترف لزوجته انه في ماضي حياته عاشر الكثيرات بالحرام ثم طلب من زوجته ان تستغفر ربها إن كانت قد أخطأت وتطلب الرحمة والعفو ” لم تفكر الزوجة طويلا ، كانت مأخوذة برهبة الموقف وبشفافية صوفية طارئة قالت بصوت منهزم وهي مطرقة الى الأرض : كانت غلطة وحيدة في حياتي ،حين سمحت ذات يوم وفي غيابك لأبن جارنا بتقبيلي “لكن لم يمهلها فقد انقلب من انسان وديع متصوف الى ثور هائج حرون واخذ يصرخ بصوت قاصف كالرعد وقد نسي الحدث المهيب : خائنة ملعونة. ومضى يصفعها وصراخ الاثنين يمزق خيوط الظلام البهيم والسكون الموحش … ونجد أنفسنا بعد ذلك في إحدى المدارس الثانوية المختلطة من الجنسين حيث يضعنا المقطع الخامس امام حالة القلق والخوف التي تنتاب الطلاب والمدرسين وقد حارت اراء المدرسين في فهم ما حدث، بعضهم اعتبرها ظاهرة كسوف الشمس، ومنهم من يرى انها إيذانا بقرب الساعة. اما المقطع السادس، وهو المقطع قبل الأخير، فانه ينقلنا الى مستشفى الجمهورية ” إذ ساد بين الجميع صمت مطبق مهول للحظات ممتزجا بحيرة كاملة شلت الالسن وعلقت الاكف على الخدود. اما المرضى فقد عاد بعضهم الى منازلهم مسرعين وقد نسوا امراضهم مفضلين الموت في منازلهم آمنين.”
وفي نهاية القصة يأتي الينا المقطع السابع حيث يقول: انه بعد انهماره على الأرض بخمس وأربعين دقيقة تقريبا بدأ ينجاب الظلام على الأرض ويظهر النهار الصادق شامخا على انقاضه المنهارة واخذت النفوس تستكين شيئا فشيئا والقلق يموت فيها مقهورا ببطء تاركا بقايا بصماته في الأعماق …انطفأت المصابيح من المتاجر والمنازل والسيارات واستأنفت الحركة نشاطها العادي، لكن من بعيد سمعت جلبة تنبعت من مجموعة من الناس يفضون عراكا بين رجل وزوجته خارج منزلهما والرجل يصرخ بجنون: خائنة خائنة … ملعونة
{ب}
” شيئان لا يمكن التحديق فيهما: الشمس والموت ” لكننا مع احمد محفوظ عمر، نغشى عالما نحاول قدر الإمكان تجنبه، انه يضعنا في عالم فانتازيا لا يعد بغير الفاجعة او الموت الجماعي مرة واحدة … هنا لم يعد يرى الانسان غير – موته – هو نفسه، انها اللحظة التي يحس فيها انه امام وجوده هو بالذات إذ لا وجود حقيقي الا في مواجهة الموت حسب تعبير هيدجر
لم تعد الحياة غير لحظة خوف وترقب وهلع إذ ان كل حركة والتفاتة وكل كلمة تنطق هي التعبير الأمثل عن خوف وقلق يستبد بالإنسان … والقصة في حد ذاتها هي قصة هذا القلق الوجودي الطاغي من المصير المجهول، من مستقبل لا يحمل الينا غير نهاية واحدة وهي: الموت
القصة اذن، تتحرك بين فضائيين: فضاء النور، وفضاء الظلام. ترافق مع ذلك بروز عدد كبير من الثنائيات الضدية، كالموت / الحياة الماضي/ المستقبل الحركة/الجمود … الى ما هنالك مما سيظهر لاحقا
تبدأ القصة بانه: في الساعة العاشرة وعشر دقائق صباحا من يوم صيفي، وفي يوم عمل، أي معظم الناس في أعمالهم تقريبا يمارسون نشاطهم اليومي المعتاد. في هذا الوقت بالذات تسقط على المدينة سحب الظلام تحجب الشمس وتثير الخوف والقلق بين الناس. وبعد خمسة وأربعين دقيقة تعود الحياة الى طبيعتها وتنجلي الغمة المظلمة السوداء من على المدينة؛ أي اننا ندخل مع القاص وعلى جسد النص، من فضاء النور – فضاء العمل والحركة والحياة – الى فضاء الظلام – فضاء القلق والموت والخوف من المصير المجهول – وننتقل مع القاص على صعيد الوعي، من الوعي بالحياة {في فضاء النور} الى الوعي بالموت {فضاء الظلام}
لم يعد الظلام – اذن – كظاهرة الا مناسبة لطرح الأسئلة، واهم تلك الأسئلة ماذا بعد ذلك الظلام؟ واهم ردود الأفعال التي برزت في المقاطع السبعة للقصة … هي التسليم، وبأن النهاية قد أزفت ولا مجال لأي فعل أو محاولة للمعرفة ان ما يسكننا حقا هذا الخوف الميتافيزيقي ويتحكم في افعالنا، انه القلق بين الوجود والعدم الذي لا ينتهي الا بانتهاء الانسان – في – الموت
وفي موازاة طرح السؤال: ماذا بعد الموت؟ يطرح النص وفي الوقت عينه سؤال مضمر: هل يعود النور؟ وهل هنالك بقية من حياة؟ أو هل هنالك بقية من امل في الحياة؟ … بين فضاء النور وفضاء الظلام يتحرك النص وتتحرك كائناته واشياؤه. ان الوعي الجمعي يحاول ان يخترق سحب الظلام وان يمتلك معرفة ما.. واي معرفة يمكن انتاجها في ظل اهتزاز كل يقين ولم يتبق في الظلام غير فوضى العقل وعجز الانسان امام قوى غير مدركه وليس في مقدوره مواجهتها … ما عليه فقط في مثل هذا الموقف سوى ان ينتظر، وكل انتظار هو بمثابة الابتعاد التدريجي عن فضاء النور دخولا في فضاء الظلام، وكل قبول بذلك على صعيد الوعي هو إجراء الاستبدال الجذري للكثير من المفاهيم والقيم والأدوات المعرفية – فما هو جائز في عالم النور، عالم الوعي بالحياة، ليس جائزا في عالم الوعي بالموت، اننا في فضاء النور ننسى الموت لكي نبقي عقلاء على حد تعبير عبد الفتاح كليطو {4} اما في فضاء الظلام أي الوعي بالموت فينبغي ان نمتلك عقلا يستجيب لاشتراطات مغايرة بالكامل
ما يحدث حقا هو اختلال في الطبيعة المعيارية للزمن … في الساعة العاشرة وعشر دقائق تبدل كل شيء ، يغدو الزمن هو الحد الفاصل بين فضاء وفضاء ، بين عالم وعالم ، لم يعد فضاء النور غير الماضي ، والإنسان يتجه بكليته نحو مستقبل مرعب في فضاء مظلم ، ولا يبقى للحاضر غير فضاء اللغة واي توقف في جريان اللغة هو الموت عينه … لذا يعاود النص في مستهل كل مقطع، التأكيد وبشكل متكرر على حدوث الظاهرة وكيفية حدوثها ، حتى ، لكأننا أمام فائض لغوي ما يدل على ان سريان اللغة ينبغي ان يتم في صيرورة لا تتوقف فهي لا تصل الى نهاياتها إلا كي تعاود من جديد وليس هنالك من جديد فيما تقوله ، ولكن شرط وجود النص ان تقوله بطريقة جديدة
هكذا تتأسس حركة النص، انها الانتقال من فضاء النور إلى فضاء الظلام بواسطة فضاء اللغة وهذه الحركة تجد تكرارها في كل مقطع من مقاطع القصة الست فقط، أما المقطع السابع فإنه يحدث قطعا في هذه الاستمرارية إذ ان القاص يعلن فيه انقشاع الظلام عن المدينة وظهور ضوء الشمس مرة أخرى بعد خمس وأربعين دقيقة … فتصير حركة النور هي حركة الانتقال: من فضاء النور الى فضاء الظلام، إلى فضاء النور مرة أخرى او من: توازن إلى اختلال في التوازن إلى إعادة التوازن مرة أخرى بحسب فلاديمير بروب {5}
لكن هذه الحركة لا تتمظهر خطيا هكذا على صعيد التجربة الإنسانية أو على صعيد الوعي والخبرة المكتسبة. إذ ان حركة النص – التي بها يتأطر والتي بها يعلن وجوده – هي حركة قصدية، انها دائما حركة الانتقال من فضاء النور الى فضاء الظلام الى فضاء النور مرة أخرى ويمكن القول ان ذلك الصباح الذي تنفس؛ ليس هو بالتأكيد ذلك الصباح الذي كان قبل نزول سحب الظلام على مستوى الوعي الجمعي والفردي أو على مستوى الخبرة الإنسانية
{ج}
يتبع