بقلم الناقدة السورية د.عبير خالد يحيي

فقدت الساحة الثقافية السعودية أول أمس واحدًا من أبرز رموزها بوفاة الأديب والقاص جبير المليحان عن عمر ناهز 75 عامًا، بعد رحلة طويلة من العطاء الأدبي جعلته واحدًا من أهم رواد القصة القصيرة.
عُرف المليحان بقدرته على التقاط التفاصيل الإنسانية الصغيرة وتحويلها إلى نصوص سردية مكثفة، تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية التي عاشها جيله، لتبقى أعماله شاهدة على مرحلة مهمة في تاريخ الأدب السعودي.
سنشارك في وداع هذه القامة الأدبية بقصة من قصصه
القصة الرمزية في السرد العربي: مدخل نظري
تُعدّ القصة الرمزية من أبرز الأشكال السردية الحديثة التي تُخاطب القارئ عبر التلميح والإيحاء لا عبر المباشرة والتقرير، حيث تتحول العناصر الطبيعية والحيوانية والوقائع اليومية إلى رموز إيحائية متعددة المستويات، تكشف عن أزمات إنسانية واجتماعية وسياسية كبرى.
ويقوم هذا الشكل السردي على:
1. تعدد مستويات القراءة: ظاهر واقعي (حكاية بسيطة عن حشرة أو عاصفة)، وباطن رمزي (كارثة أو قمع سياسي أو حرب).
2. التكثيف البصري: حيث تنمو الصورة من جزئية صغيرة (كالجراد) لتتحول إلى بنية رمزية كبرى (الحرب).
3. النقد غير المباشر: استخدام الرمز كوسيلة لمواجهة الواقع أو السلطة دون الاصطدام المباشر بها.
وقد ظهر هذا المسار في الأدب العالمي مع كافكا (التحوّل/المسخ)، وكامو (الطاعون)، حيث أصبحت الكائنات والأوبئة استعارات للاغتراب والعبث والاحتلال. أما في الأدب العربي فقد تجلى عند زكريا تامر في “النمور في اليوم العاشر”، حيث استحال الحيوان رمزًا للاستبداد، وعند نجيب محفوظ في “العاصفة”، حيث تحولت الظاهرة الطبيعية إلى إنذار بالخطر الجمعي. في هذا السياق، تأتي قصة “الجراد” لجبير المليحان بوصفها نموذجًا بارزًا للقصة الرمزية السعودية والعربية، فهي تلتقط تفاصيل طفولية بسيطة وتحوّلها إلى ملحمة رمزية عن الحرب والخراب.
التحليل الذرائعي لقصة “الجراد” – جبير المليحان
- العنوان ودلالاته
العنوان “الجراد” يوحي للوهلة الأولى بحدث طبيعي، لكنه يتجاوز المعنى المباشر إلى فضاء رمزي: الجراد هنا ليس مجرد حشرة مدمرة، بل استعارة جماعية للهلاك القادم من “السماء”؛ أي للقوى الخارجة عن السيطرة: السيول، الجراد، العقارب، الأفاعي، الطائرات… وصولًا إلى الحرب. العنوان يمهّد منذ البداية لرمزية ممتدة تُقوّض الاستقرار وتحوّل الخطر الطبيعي إلى قدر إنساني–اجتماعي–سياسي
العنوان «الجراد» يتجاوز المعنى الحرفي إلى رمز للهلاك القادم من السماء.
«نعم، لا أحب السيول، لا أحب الجراد.. فهي تأتي وتفسد كل شيء، دون أية مسؤولية».
- البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
القصة تقوم على ثنائية التحذير/الاستهزاء. الطفل “سين” الذي يرى القادم من فوق، ويُتهم بالشيطنة، يتحوّل إلى ضمير ناطق يسبق مجتمعه في استشعار الكارثة.
البؤرة الفكرية تدور حول العجز الجماعي عن الإصغاء إلى صوت الوعي، والانغماس في اللحظة المادية (الاحتفال بوليمة الجراد) بدل الانتباه إلى التهديد الكامن (تحوّل الجراد إلى عقارب/أفاعي/طائرات).
الخلفية الأخلاقية هي نقد للوعي الجمعي القاصر الذي يواجه الأخطار بالإنكار، ويشيطن كل من يوقظه.
«الجراد كثير، وسيلتهم كل شيء في الغد» يقابلها «الناس يخرجون جذلين ويملؤون أكياس الخيش به».
الخلفية الأخلاقية: نقد للوعي الجمعي الذي يشيطن الرائي ويحوّل صوته إلى لعنة بدلًا من أن يصغي إليه.
3. المستوى البصري
النص زاخر بالمشاهد البصرية الكثيفة:
بمعنى أدق، القصة لوحة سينمائية رمزية
صورة رأس “سين” الكبير الذي يتأرجح كبطيخة.
«نضحك ورأسه الضخم يتأرجح في يد الرجل كبطيخة».
مشهد القدور الكبيرة والمياه تغلي بينما تُلقى فيها أكوام الجراد.
«أكوام الجراد الأعمى تندلق من أفواه الأكياس متخبطة بالماء».
تحوّل الجراد إلى عقارب صفراء صغيرة ثم إلى أفاعٍ طائرة بأزيز يشبه المراوح.
المشهد الأخير: الأفاعي الطائرة/الطائرات تقصف المدينة.
«أسراب العقارب ترتفع بالجو، وتتضخم إلى ما يشبه الأفاعي الكبيرة.. لها أجنحة ومراوح وأزيز.. طائرات».
هذه الصور تعكس سينما رمزية متصاعدة من المشهد الواقعي ( الواقعي) إلى الفانتازي ( عقارب/ أفاعٍ)، ثم إلى رمزي – سياسي( طائرات).

4. المستوى اللغوي والأسلوبي
لغة القصة تمزج بين:
- البساطة الشفوية: (حكاية تُروى بلسان طفل/راوٍ قروي).
«ألا تأتي الغيوم من فوق هذه الجبال؟!»
- تكثيف رمزي: (العقارب = السموم، الأفاعي الطائرة = الطائرات، الجراد = الاستهلاك الأعمى).
«ما يكبونه لم يكن جرادًا ـ كان أشبه بعقارب صغيرة صفراء».
- إيقاع تكراري تصاعدي:
«الجراد.. الجراد.. العقارب.. الأفاعي.. القنابل.. الصواريخ.. الطائرات.. الحرب».
الأسلوب هنا يجمع بين السرد الحكائي الشعبي والإيحاء الرمزي الكثيف.
5. المستوى الديناميكي (التقنيات السردية)
التدرج التصويري: من الطبيعة (السحب/السيول) ←الكائنات (الجراد/العقارب/الأفاعي) ← التقنية (الطائرات/القنابل).
انتقال زمكاني: من القرية/الطفولة ←المدينة/الحرب.
«سين يدب على الأرض في هذا الزمان، في المدينة على هيئة رجل.. رفعت بصري: كانت أسراب الأفاعي اللامعة تشقها، وتحوم فوق المدينة».
المنظور المزدوج: صوت الطفل/سين وصوت الراوي العجوز، ما يمنح القصة بعدًا أسطوريًا.
6. المستوى النفسي (المدخل التوليدي)
“سين” يمثل نموذج المُرهَف الحسي/الإنذاري الذي يولد بوعي استباقي، لكن مجتمعه ينظر إليه كمسخ (شيطان/مجنون).
شخصية “سين” تمثل النبي المرفوض/الرائي الذي يرى ما لا يراه الآخرون، ويُتَّهم بالشيطنة.
«أنت تقول يا شيطان أن الخطر يأتينا من فوق».
هنا تتشكل آلية نفسية جماعية: إسقاط الخوف على الآخر/المختلف بدل مواجهته. عبر المدخل التوليدي، يتحوّل هذا الوعي الطفولي إلى رمز لنفسية المبدع/الكاتب الذي يرى الكارثة قبل الجميع.
المدخل التوليدي يكشف أن الخوف الطفولي من السحب والجراد يولّد رموزًا أعمق (عقارب/أفاعٍ/طائرات). أما الجماعة فتمارس آلية الإنكار الجمعي، فتحوّل الكارثة إلى فرح، فتفرح بالكارثة (وليمة الجراد) حتى تتحول إلى هلاكها. حتى تصير الحرب حتفًا جماعيًا.
7. المستوى العميق والبنية الرمزية
الجراد: رمز الاستهلاك الجمعي الأعمى وللكارثة الطبيعية والهلاك.
«عناقيد الجراد المتبقية في الأشجار تقضم الأوراق والثمار والغصون».
العقارب: إيحاء بالسموم الكامنة في الوليمة/ الفرح الزائف.
«ما يكبونه لم يكن جرادًا.. كان أشبه بعقارب صغيرة صفراء، لها إبر سامة».
الأفاعي الطائرة: رمز مباشر للطائرات الحربية، أي انتقال الخطر من الطبيعة إلى الإنسان ( الحرب).
«أفاعٍ كبيرة لها أجنحة ومراوح وأزيز.. طائرات».
سين: رمز للرائي/العرّاف الذي يرى المستقبل أو النبي الذي يحذر ولا يُصغى إليه ولا يُصدق.
القرية/المدينة: ثنائية الماضي /الحاضر، حيث الكارثة تتطور في الأدوات لكنها تبقى جوهرًا واحدًا.
البنية الرمزية تجعل القصة أقرب إلى أسطورة حديثة عن الوعي والإنكار.
8. التوازي (التناص الرمزي – المدخل التوليدي النفسي)
– مع زكريا تامر (النمور في اليوم العاشر): كلا النصين يوظف الحيوان كرمز للكارثة؛ النمر رمز للحرية المقموعة، والجراد رمز للهلاك الجماعي.
– مع نجيب محفوظ (العاصفة): كما حذّرت الشيخة بهية من العاصفة ولم يُصغَ إليها، يكرّر سين المصير ذاته مع الجراد.
– مع الأساطير الشرقية: يشبه “سين” شخصية العرّاف أو النبي المرفوض (مثل كاساندرا في الأسطورة الإغريقية) الذي يُعطى هبة الرؤية المسبقة ولا يُصدّق.
إذن المدخل التوليدي يبين أن الرمز (الجراد/النمر/العاصفة) يتولّد من خوف جماعي مكبوت يتحول إلى مأساة كبرى.
9. التجربة الإبداعية
جبير المليحان يوظف ذاكرة الطفولة (القرية، الرابية، خوف الأطفال من السحب) كأصل لتوليد الرمز. يلتقط من ذاكرته الطفولية تفاصيل صغيرة:
«كنت أخاف من السحب».
ثم يحوّلها إلى رمز كوني للحرب، جامعًا بين الواقعي والرمزي، بين القرية والمدينة، بين الطفولة والكوارث الكبرى. هذه التقنية جعلت القصة القصيرة عنده مشروع وعي أكثر من كونها مجرد حكاية.
بالختام:
قصة “الجراد” لجبير المليحان نص رمزي مكثف يبرع في كشف آليات الإنكار الجمعي، ويجعل من شخصية “سين” أيقونة للرائي المنبوذ الذي يُبصر الكارثة قبل وقوعها. عبر تدرج رمزي من الطبيعة (السحب والجراد) إلى الحيوان (العقارب والأفاعي) إلى الحرب الحديثة (الطائرات والصواريخ)، تتحول القصة إلى أسطورة حديثة عن الهلاك الإنساني.
وبالمقارنة مع محفوظ وزكريا تامر، يتضح أن المليحان ينتمي إلى خط رمزي عربي أصيل، لكنه ينفرد بقدرته على توليد الرمز من الطفولة اليومية إلى المصير الجمعي، ما يضعه في مصاف كتّاب عالميين مثل كافكا وكامو.
لقد أثبت المليحان أن القصة القصيرة ليست ترفًا فنيًا، بل نص للوعي، يضيء العتمة ويحذر من الكارثة، حتى وإن تواطأ المجتمع على شيطنة الرائي وإقصائه.

“الجراد”.. قصة قصيرة
بقلم : جبير المليحان.. رحمه الله
دبّ على الأرض في هذا الزمان، في قرية منسية طفل . قال :اسمي سين، جسمي صغير، ورأسي كبير ـ …… كنا ندعوه بالحكيم، ذي الرأس الكبير، الرائي، ورجل آخر ناداه بالشيطان ــ ……
نعم أنا سين كنت أقول للأطفال أن الخطر يأتينا من فوق، قالوا لآبائهم ذلك فلم يصدقوني وغضبوا .. الصغار يحسون بخوفي فيخافون .. كنت أخاف من السحب ــ ……
ننظر إلى سين وجسده يرتعد عندما تسود السماء بالغيوم وترعد، ويبدأ لمعان البروق .. يهرب سين إلى الرابية المرتفعة وهناك يبدأ بالعويل وتحذير الناس ــ ……
نعم، لا أحب السيول، لا أحب الجراد .. فهي تأتي وتفسد كل شيء، دون أية مسؤولية ــ ….
كنا، نحن ( أطفال القرية ) نلعب في ملعبنا؛ تختفي الشمس .. تقترب الغيوم .. ينتفض سين، ويهم بالهرب إلى الرابية .. يقبض عليه رجل من رقبته الدقيقة .. نضحك ورأسه الضخم يتأرجح في يد الرجل كبطيخة .. ننتظر أن يتدحرج و يسقط بين قدمي الرجل .. الرجل يقول
أنت تقول ـ يا شيطان ـ ( يكشر الرجل، وينتفض سين كدجاجة ) أن الخطر يأتينا من فوق .
يرفع الرجل إصبعه إلى السماء فنرفع كلنا أبصارنا ..يهز سين رأسه المتدحرج ويقول :
نعم .. من فوق ..
يرفع الرجل يده هاما بلطمه على فمه .. لكن سيناً يشير إلى الجبال العالية التي تخفي الشمس بعد صلاة العصر، ويقول :
ألا تأتي الغيوم من فوق هذه الجبال ؟!! ألا تدمر سيولها مزارعكم و تهدم بيوتكم ؟!! .. ألا يأتي الجراد طائرا في السماء ويحط على أشجاركم و يأكلها ؟!!
تتسع عينا الرجل، وتتراخى يداه، فيتملص منه سين و يفر إلى رابيته .. الرجل يبصق في الأرض، ويطوي يديه الخاويتين ويقول :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. إنه شيطان .. الشيطان ..
تلك الليلة استمر عويل سين على الرابية وقتًا طويلًا .. هدأ بعد تبدد السيول في الشعاب البعيدة ..لكنه في ليلة أخرى كان هو الوحيد الذي يعوي مفجوعا.. أما الآخرون فكانوا سعداء :
كنا نلعب في الشمس التي أخذت تدلهم بالقاني لتمتص فرح القرية وتخفيه .. أظلمت الدنيا فجأة .. نظر سين إلى السماء وارتجف، ثم زعق :
الجراد.. الجراد .. جاء الجراد ..
و فرّ راكضا يصيح بالناس، لكن صوته الضعيف اختفى وسط الصهيل الفرح لصوت الرجل الذي كان يمسك برقبته .. الرجل يصهل عاليا، مبشرًا أهل القرية بالجراد، الجراد يخيم ـ بهدوء ـ على غصون الأشجار كالعناقيد .. الناس يخرجون جذلين ويملؤون، طوال الليل، أكياس الخيش به. سين يعول صائحًا : الجراد كثير، و سيلتهم كل شيء في الغد .. صوته يتبدد .. وفي الصباح : يترك الناس مزارعهم، وينصبون القدور الكبيرة، ويوقدون النيران .. المياه تغلي في القدور . وأكوام الجراد الأعمى تندلق من أفواه الأكياس متخبطة بالماء طلبا للفرار .. عناقيد الجراد المتبقية في الأشجار تقضم الأوراق والثمار والغصون وتطير منتقلة من مزرعة إلى أخرى وأخرى .. والرجال و النساء يمزقون الأكياس و يكبون الجراد في القدور .. والأطفال يركضون فرحين في كل مكان ، يدورون حول القدور، والكبار يمصمصون شفاههم بانتظار الوليمة..
نزل سين وجلًا، من رابيته صباحًا، و وقف بجانب قدر كبير .. وشاهد أن ما يكبونه لم يكن جرادًا ــ كان أشبه بعقارب صغيرة صفراء ، عقارب بأذناب معقوفة ولها إبر سامة .. الناس مستمرون يوقدون نيرانهم الصغيرة، و يغلون مياههم في تلك القدور، و هم يكبون العقارب، ويمصمصون شفاههم؛ وأنا واقف أشاهد أسراب العقارب تنسل من القدور، مارقة بخفة وسط البخار المتصاعد إلى الجو وهي تطير .. أشاهد أسراب العقارب وهي ترتفع بالجو، وتتضخم إلى ما يشبه الأفاعي الكبيرة .. أفاع كبيرة .. كبيرة ..أسراب من الأفاعي .. أسراب ،أسراب …أشاهد أن لها أجنحة ، و مراوح، وأزيز … طائرات …
سين يدب على الأرض في هذا الزمان، في المدينة على هيئة رجل، جسمه صغير .. مرّ بي، وكنت أقف أمام باب البيت، بدأت الشمس تدلهم بالقاني لتمتص فرح اللون .. أظلمت الدنيا فجأة .انتفض الرجل سين و تلفت، لم يكن هناك رابية . بدأ يصرخ، و يشير إلى السماء بيديه :
رفعت بصري : كانت أسراب الأفاعي اللامعة تشقها، و تحوم فوق المدينة ….
الأفاعي الكبيرة الطائرة ..
كانت تسقط فوق رؤوسنا عناقيد كثيرة من جراد أشبه بعقارب صفراء لامعة ..
تتشظى العناقيد و تثقب الدور والقدور والصدور والجسور والأرض ….
الناس يتبعثرون والأشجار والهواء والأغاني تتمزق كالآهات ….
و أنا أقف في باب منزلي في شارع في المدينة ، وشعري الأبيض يتطاير مني ، وأعضاء جسدي تتساقط .. وأنا أطلق فجيعتي خلف الرجل الصارخ الراكض ململما أحشاءه المتناثرة ، ويداه تعلوان بصراخ حاد كالدم للآخرين :
الجراد …الجراد .. العقارب .. الأفاعي .. القنابل.. الصواريخ ..الطائرات .. الحرب …. الحرب … الحرب ..
وأنا أتابعه، وهو يجري وسط الشارع، مع حركة السير المنسابة بهدوء كالطمأنينة .. ومن بعيد يلوح صدى صراخه كغمامة حزن .. وخلفه ينفجر في الهواء سؤال صغير: إلى أين يركض والسماء فوق كل الأمكنة ؟!!