(الصحافة السورية نموذجًا) الكاتب مروان ناصح

في “الزمن الجميل”، كانت الجريدة تُشترى مع رغيف الخبز، وتُقرأ صباحًا مع فنجان القهوة. لم يكن أحد يصدّقها بالكامل،
لكنها مع ذلك كانت جزءًا من الطقس اليومي.
أشبه بمرآة غائمة يعرف القارئ أنها لا تعكس كل شيء، لكنه يحدّق فيها على أي حال.
-صباح الجريدة… وطقس التوقعات العقيم
في دمشق، كان الناس ينتظرون الباعة الصغار وهم ينادون بأسماء الصحف.
تُطوى الجريدة بعناية تحت الإبط، وتُفتح في المقهى أو على الرصيف.
يبدأ القارئ بالعنوان الأول:
ــ “السيد الرئيس يوجّه…”
ثم يقلب الصفحات بحثًا عن جديد،
عن خبر حقيقي يشبه حياته اليومية، فلا يجد إلا صورًا مكررة، تقارير عن “إنجازات الجماهير”،
وزوايا باهتة بعنوان: “من نبض الشارع”،
فيما الشارع نفسه لا يعرف أنّ له نبضًا مكتوبًا.
-الصحافي… بين وظيفة “الناقل” ودور “المبرّر“
لم يكن الصحافي كاتبًا حرًا، بل موظفًا يوقّع على ولائه يوميًا. أعمدته ليست للتعبير، بل للتبرير، تُصاغ بلغة خشبية تكرّر مفردات مثل “النهج”، “المسيرة”، “القيادة الحكيمة”.
كان يُقاس ولاء الصحافي بمدى قدرته على حشو نصه بهذه العبارات.
كلما كان غامضًا ومكرورًا، زادت فرص ترقيته.
-أخبار بلا دهشة… ومقالات بلا خصام
كانت الصحف الرسمية عالماً منسجمًا بلا تناقضات. لا انفجارات إلا في دول أخرى، ولا أزمات إلا بسبب “الحصار الخارجي”، ولا أخطاء إلا “تقصيرًا غير مقصود”.
المقالات كلها متفقة، كأنها صادرة من عقل واحد.
أما الاختلاف فكان ترفًا خطيرًا. حتى الفاصلة قد تحمل معنى مواربًا، والكاتب كان يخشى أن تُفهم جملته البريئة على أنها غمزٌ مبطن.
-بين الجريدة والمقصّ: من يحرّر من؟
“رئيس التحرير” لم يكن صاحب القرار، بل حامل الهاتف الذي يتلقى التعليمات. —هل نذكر اسم الوزير؟
ـ هل ننشر صورته؟
-هل نسمح برسالة القارئ؟
أسئلة تُطرح قبل أن يخرج أي سطر إلى العلن.
ثم يأتي المقصّ ليمارس عمله: حذف، تعديل، إرجاء، حتى تتحوّل المقالة من فكرة إلى بيان، ومن سؤال إلى نشيد.
-الجمهور شريك في لعبة الصمت
كان القراء يعرفون اللعبة. يشترون الجريدة رغم علمهم بفراغها.
يقرأون العناوين بين السطور، ويبتسمون حين يلمحون إشارة عابرة أو خطأً مطبعيًا يفلت من المقص.
كانت المقاهي تتحوّل إلى ساحة تفسير جماعي:
ــ “هل لاحظت العبارة؟”
ــ “أظنها مقصودة…”
وهكذا، تصبح الجريدة مادة للسخرية أكثر مما هي مصدرًا للمعلومة.
-من زمن الحبر المراقب… إلى زمن التعليق المحذوف
في الماضي، كانت الرقابة تمارس عملها قبل الطباعة، أما اليوم فصارت المراقبة رقمية، تُشطب التعليقات بعد النشر، ويُغلق حساب الصحافي بعد ساعة.
كان الصحافي قديمًا يخشى الهاتف الأرضي، أما اليوم فيخشى إشعارًا على بريده الإلكتروني. ومع أن الوسائل تغيرت، فإن الخوف لم يتغير كثيرًا.
-خاتمة
في “الزمن الجميل”، لم تكن الصحافة تكذب دائمًا،
لكنها كانت تغضّ النظر عن الحقيقة، وتدّعي أنها ترى ما تراه السلطة فقط.
كان الصحافي يكتب لينجو لا ليقنع، ويصوغ الجملة بمداد الخوف لا بالحبر.
أما اليوم، فقد كبرت الوسائل وتعددت الشاشات، لكن السؤال ما زال معلقًا:
هل بقي بيننا من يريد صحافة تُخبر لا تُطمئن، وتكشف لا تُجمّل؟
أم أننا ما زلنا نكتفي بجرائد تُطوى تحت الإبط… وتُقرأ بعيون دامعة؟