الأدب السوري…تآخي الأرواح في دروب الإبداع
الكاتب مروان ناصح

كانت سورية -في الزمن الجميل- أشبه بلوحة تتلألأ فيها الأفكار، كما تتلألأ الألوان في ضوء الصباح. لم يكن الأدباء يومها يسألون بعضهم عن المذهب أو الطائفة، بل عن القصيدة الأخيرة، عن الرواية الجديدة، عن جرح الوطن المشترك.
كان الإبداع هو الدين الأعلى، وكانت المحبة وطنًا يسع الجميع.
-دمشق… ملتقى النغم والندى:
في مقاهي دمشق القديمة، حيث تفوح رائحة البن وتختلط بأنين العود، كان الشعراء والروائيون يلتقون كما يلتقي الورد بالندى. هناك كان عبد السلام العجيلي الطبيب الذي داوى جراح الجسد والروح، يجالس حنا مينة البحّار الذي علّم البحر كيف يحلم.
كل منهما كان يرى في الآخر مرآةً للصدق، لا اختلافًا في العقيدة، بل اتحادًا في المعنى الإنساني العميق.
-وطن واحد… حلم واحد:
ما جمعهم لم يكن الدين، بل الوطن، ولم تكن الطقوس، بل القيم.
كتبوا من أجل أن يحيا الإنسان حرًّا كريمًا، أن تُضاء البيوت بنور العدالة، وأن تصدح الحناجر بالكرامة. في قصص العجيلي كما في روايات مينة، نجد وجه سورية المتعب لكنه الواثق بأن الغد يستحق النضال. كان الأدب يومها رسالة حبّ للوطن، قبل أن يكون مهنة أو شهرة.
-قلوب على وتر الإنسانية:
كانوا يؤمنون بأن الكلمة تستطيع أن تهدم جدار الخوف، وتبني جسور الألفة. لذلك، لم يكن غريبًا أن تجد القاص المسلم يكتب عن معاناة الكاهن، وأن يصف الشاعر المسيحي دموع أمٍّ مسلمة تنتظر ابنها على الحدود. كانت الكتابة صلاة مشتركة تؤدى بحبرٍ واحد، لا يُفرّق بين كنيسةٍ تصدح بالتراتيل وجامعٍ يعلو فيه الأذان.
-في حضن المرافئ والقرى:
من اللاذقية التي غنّى لها حنا مينة رائحة البحر، إلى الرقة التي منحها العجيلي نبض الصحراء،
كان الأدب السوري ينسج خيوطه من العرق والحب، من الطين والبحر. كانت القرى والمرافئ منابر للكلمة الصادقة، تُكتب فيها القصص كما تُكتب الصلوات: بصدقٍ ودمعٍ وابتسامة.
وكان الحوار بينهما لا يعرف إلا لغة الإخلاص.
كان العجيلي ببدلته الأنيقة ونبرته الهادئة يستمع إلى حنا مينة وهو يروي بحماس قصص البحر والعاصفة، ثم يبتسم قائلاً: “كلنا نكتب عن الموج يا حنا، لكن بعضنا يراه في الرمل، وبعضنا في الروح.”.
-الحرية… الأنشودة الكبرى:
لم يكن الأدباء يومها يهربون من الواقع، بل كانوا يواجهونه بقلمٍ يتوهّج كالشمعة في وجه العاصفة.
الحرية كانت مطلبهم الأول، والكرامة نشيدهم الخالد. وكلما ضاق بهم الأفق السياسي، اتسع أفقهم الفني، فكتبوا ما عجزت السياسة عن قوله، وغنّوا للوطن حين خرسَت المنابر.
-أدب بلا أسوار:
كانوا يختلفون في الأسلوب، لكنهم يتشابهون في النقاء.
عبد السلام العجيلي يكتب بصفاء البادية، وحنا مينة يكتب بملح الموج، وكلاهما يسكبان في روح القارئ دفء الإنسان. لم يكن أحدٌ من الأدباء السوريين يرفع راية الدين، لأنهم جميعًا كانوا جنودًا في جيش الأدب الذي يحرس الإنسان من الجهل والتفرقة.
-من ذاكرة الورد إلى دروس الحاضر:
رحل أولئك الكبار، لكن عطرهم ما زال يملأ الذاكرة. إنهم الدرس الباقي للأجيال الجديدة:
أن الأدب لا يزدهر إلا حيث يسود الحب، وأن الوطن لا يُبنى إلا حين يتصافح الكادح والمثقف،
المسلم والمسيحي، تحت سقف الإنسانية الواحدة.
-خاتمة:
في ذلك الزمن الجميل، لم تكن الطوائف تُبنى على الحدود، بل كانت القلوب هي المساجد والكنائس. كتب الأدباء عن الإنسان في وجه الألم، عن الحلم في مواجهة القهر، عن الوطن الذي يسع الجميع. كانت سورية تُغنّي بصوتٍ واحدٍ، وتكتب بيدٍ واحدة، وتؤمن أن الإبداع هو الإيمان في أبهى تجلياته.