كانت الساعة تقترب من الرابعة بعد ظهر يوم الخميس 13 أكتوبر 1988عندما دخل نجيب محفوظ إلى سريره لينام.
بعد دقائق دخلت عليه زوجته الست عطية الله إبراهيم – وقالت بفرح:
” نجيب.. سي نجيب..يا نجيب”!
— نعم..خير!
— “قوم..قوم”
— خير.. ما الذى حدث؟
— الأهرام – صحيفة الأهرام – اتصل وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل”!
— رد: جائزة نوبل مرة واحدة كده؟!
— قالت:” آه..بتوع الأهرام قالوا كده!
— سألها: “أهرام مين يا عطية”؟( كانت الست عطية الله – منذ سنوات مضت وهى تحلم بحصوله على الجائزة وتري – بل وتثق – فى أحقيته فيها)!
— ثم أكدت قائلة:”بقولك الأهرام اتصلوا الآن!
بعد لحظات صمت اعتدل فى سريره، وهو يستشيط غضباً منها معتبراً كلامها ما هو إلا “هلوسة” تسببت فى إفساد (نوم القيلولة) الذى يحبه ويحرص عليه!
《 2》
مرت لحظات من الصمت والهدوء والغيوم ثم قال لها:
“كنت قد قلت لك من قبل أن جائزة نوبل صعبة المنال، كما إننى لا أفكر فيها مطلقاً، وحياتنا – والحمد لله – مستورة.. أليس كذلك”؟!
وقبل أن ترد على كلامه… شرد بذهنه وعاد بالذاكره عندما بدأ يفكر فى الاستقرار – بعد إصرار والدته على زواجه – فجاء ارتباطه من عطية الله – زواجا عملياً، حيث اختار الزوجة المناسبة لظروفه والتى تساعده على العمل الجاد( الذى هو الكتابة)!
لقد اختار زوجة تعرف أنه وهب حياته كلها للأدب.
اختار زوجة لا (تنغص) عليه عيشته!
اختار زوجة توفر له جوا مناسباَ للقراءة والكتابة.
وفى مقابل هذا الاختيار رفض فتاة – من اختيار والدته بالطبع – كانت شديدة الثراء ومن عائلة كبيرة، وتأكد رفضه لها عندما أعلن أهل الفتاة إنهم سيتكفلون بكل تكاليف الزواج من مهر، وشبكة، وشقة، وعفش، وفرح!. لقد أدرك أن هذه الفتاة – بكل هذا الثراء – ستكون ماسة بكرامته، بسبب عدم تكافؤ الناحية المادية بينهما! لذلك انتظر، وبحث، وفتش حتى ارتبط بعطية الله التى تزوجها سراَ – حتى لا يُغضب والدته – سنة 1954 فى شقة شقيقه محمد لأنه لم يكن يمتلك شقة يتزوج فيها!
لقد مر شريط الذكريات أمام عينيه وهو(بالبيجامة) وهي واقفة فى انتظار أن ينهض من السرير! لكنه مازال ممدداً محاولاَ – استدعاء – واستكمال نومه!
《 3 》
بعد لحظات من الصمت رن التليفون فى الصالة مرة أخرى.
فقال لها:”رد على التليفون..وخليني أنام قليلاً”!
وقبل أن يشد الغطاء على جسده عادت مرة أخرى وقالت:
“محمد الباشا من الأهرام على التليفون عايزك”!
فقام من سريره وتحرك للصالة ورفع السماعة قائلاً: ” مين”؟!
— رد:”مبروك يا أستاذ” ثم أضاف قائلاً:”الأستاذ سلامة أحمد سلامة عايز يكلمك اتفضل” فجاء صوته مبتهجاَ:” أنا سلامة يا أستاذ نجيب…مبروك.. شرفتنا” ثم قال سلامة بسعادة بالغة:
“جاءتنا نتائج جائزة نوبل وأنت فزت بها”!
رد مندهشاً:” معقولة..معقولة..وقبل أن ينفض عن ذهنه الدهشة، والاستغراب، والارتباك الذى اصابه، رن جرس الباب فنظر إلى زوجته ( التى مازالت واقفة ترتدي زي المطبخ)
— افتحي الباب يا عطية!
تحركت بسرعة وفتحت الباب فدخل شخص وامرأة( اعتقد أنه صحفي ) وفوجئ بأحد مرافقيه معه يقدمه لهما قائلاً:
“سعادة سفير السويد وحرمه”!
— أهلا وسهلا!
— مبروك أستاذ نجيب..فوزك بجائزة نوبل”! وقدم له هدية رمزية عبارة عن قدح من البنور أشبه بصناعات خان الخليلى. استأذن نجيب محفوظ ودخل غرفته وخلع (البيجامة) وارتدي بدلة وجلس مع السفير يتبادلان الحديث والتهانى بهذا الخبر المدوي!
إذن لم تكون الست عطية الله فى حلم و لا فى (هلوسة)!! إنه الآن علمَِ.. وحقيقة..وواقع..إنها – حقاً – جائزة نوبل!
《 4》
— قالت بفرح وسعادة:
“مبروك يا سي نجيب”!
— رد: “مبروك عليكِ يا عطية”…وما هى إلا دقائق حتى انقلب البيت رأساَ وطولاَ وعرضاَ من التهانى، والزوار، والزيارات، والتليفونات، واللقاءات الصحفية والتليفزيونية العربية والعالمية.
لقد فاز نجيب محفوظ – كأول مصري وعربي – بجائزة نوبل..تلك الجائزة التى كانت زوجته عطية الله دائمة الكلام عنها، ودائماَ فى انتظارها، ودائماً واثقة فى أنه الأحق بالفوز بها. وما توقعته حدث بالفعل!
وبعد مرور السنين قال نجيب محفوظ عندما سُئل عن عطية الله:
“إن زوجتى تحملتني كثيراً وساعدتني على تطبيق النظام الصارم الذى فرضته على حياتى..ووفرت لى جوا من التفرغ للكتابة، وحاولت بقدر طاقتها أن تبعدني عن كل ما يعطلني ويشغل تفكيري. وإذا كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها، فزوجتى فى المقدمة”!!
《5》
و..و..والسؤال..هل لو تزوج نجيب محفوظ من الفتاة شديدة الثراء ذات الحسب والنسب – التى رشحتها والدته – كانت ستتحمله، ولا تعطله، وتريحه ولا تشغله، وتروق عقله وتساعده، وتوفر له الجو الذى يجعله يتفرغ للكتابة؟
أَمْ أنها – شأن نساء أخريات – كان من المحتمل أن تربكه، وتهلكه، وتزعجه، وتستهلكه أمام محكمة زنانيري(هى محكمة مختصة بقضايا الأسرة)!
فلا يفوز (هو) بجائزة نوبل ولا نفوز (نحن) بأدبه العظيم؟!
خيري حسن
—————
• الأحداث حقيقية ..والسيناريو من خيال الكاتب.
• الصورة:
نجيب محفوظ فى ركن من شقته الصغيرة والسيدة عطية الله – زوجته – تقدم إليه صحف الصباح
والصورة – نقلا عن كتاب – رجاء النقاش (نجيب محفوظ – صفحات من مذكراته )
• المصادر:
كتاب: نجيب محفوظ – صفحات من مذكراته – رجاء النقاش – طبعة مركز الأهرام للنشر – الطبعة الأولى – 1998