ثلاثة نصوص شعرية قرأتها في الفترة الأخيرة جعلتني أكرّر قراءتها مرارا ،وهي من مدارس شعرية مختلفة” كلاسيكي وتفعيلي ونثري”
أرى أنّ الشعر شعر مهما كان شكل الثوب الذي يرتديه ، فقيمته في جوهره الفنّي لا بريق شكله الظاهري.
1
نوال يماني من البحر البسيط
…
مــازالَ مِــنْ يَــدهِ
عِطرٌ على حرفي
أشتَمــُّه جَســداً
يُغــري بما يَكفي
أنفـيـــهِ ذاكـــرةً
والقلــبُ لا ينفي
إنْ صَـدَّهُ جَـلَدي
يرتَدُّ مِنْ ضَعفي
نص شعري كلاسيكي وحداثي معا ، تتجلى الشعرية هنا في تطويع الوزن لا الخضوع له، لأنّ الخضوع يخلق كائنا مسخا اسمه النظم، وشتان بين الشعر والنظم.
الخيال الخلاق من شأنه أن يولّد صورا مبتكرة مرئية وغير مرئية ، كذلك البديع الذي تفوقت فيه الشاعرة هنا الطباق بنوعيه بقولها: أنفيه لا ينفي لتصوير الصراع بين الذاكرة والعاطفة. وجلَدي وضعفي لبيان حالتين متناقضتين.
لا عيب في الوزن الخليلي إذا كان الشاعر شاعرا حقا، فالوزن لديه عجينة يصنع منها ما شاء من جمال .
2
رهيف حسون من بحر الرمل
…
منْ تكـونيــنَ؟
وأنّى لكِ هذا المجدُ والسُّلطانُ،
حتّى تأمُري القلبَ وتنْهَيْهِ،
كطِفلٍ لا يُحَاذِرْ
إنَّني حقّاً لحَائِرْ
أو ما يوجدُ للغربَةِ في عينيكِ آخِرْ؟
كلَّما حاوَلْتُ أن أعْرِفَكِ
اسْتَسْلَمْتُ للحُزْنِ بِعَينَيكِ،
ولم أدْرِ إلى أينَ أهاجِرْ
قصيدة رهيف حسون من شعر التفعيلة، وقد استطاع أن يحلق بنا بعيدا ،مسيطرا على الوزن، موجها إياه إلى حيث يريد، فهو سيد اللعبة لا خادمها، ومن هنا أخذنا مع أسئلته الوجودية من خلال نصّ ظاهره غزل وداخله فلسفة بعيدة الأغوار، وربما كان يخاطب الحياة نفسها ، تلك التي تسيّرنا كما تشاء ، وما أجمل تصويره للغربة اللانهائية في هذه الحياة التي كلما زاد معرفة بها زاد جهله بها أكثر.
أفكار كبيرة استطاع رهيفنا أن يوجزها في أسطر شعرية قليلة، وهنا الإبداع.
يونس الحكيم بلا بحر
…
هذا القطارُ يأخذُني
كأنّني لستُ مسافراً
ولا وجهةَ لي
إلّا لممرّاته الضيّقةِ
أحملُ الأشجارَ في طريقي
والجسورَ المعلّقةَ
أحملُ الطرقَ السريعةَ
وأحلمُ
مثلَ ميتٍ
في محطّةٍ باردةٍ
روحي
كرةُ من طينٍ
وعنواني
زجاجةٌ فارغةٌ
أما يونس الحكيم فطائر مجنون يفكر بعقل آخر بعيد عن تفعيلات الشعر /وكأني به يضيق بكل شيء كما هو واضح في نصه هذا، فالقطار ضيق جدا وهو رمز للحياة التي يضيق الحكيم ذرعا بممراتها الضيقة، لأن روحه المتشظية أوسع منها بكثير.
أنه هو الذي يحملها ويتحملها بكلّ ما فيها من أعباء بدلا من أن تحمله هي وتتحمله.
أما قوله:
روحي كرةٌ من طينٍ
وعنواني زجاجةٌ فارغةٌ
فهو فوق الشعر والنثر معا ، فبرغم ضيق مساحة الحياة إلى درجة الاختناق يبدو هنا خياله الدفاق الخلاق وهو يعبر عن مأساته التي هي مأساتنا جميعا بكلام يحتاج منا إلى الكثير من التأمل والتخيل والجنون.
…
وهكذا فالشعر يولد عاريا كما الإنسان، وهو الحقيقي الطبيعي الأصيل ،ثم نأتي نحن فنُلبسه ما نريد، ونقيده، ونفرض عليه مذاهبنا ، حتى يفقد لون عينيه ونبرة صوته ، وفصيلة دمه ، وبالتالي يعيش بيننا كاليتيم على مائدة اللئيم.
تحية للشعراء الثلاثة.