(قصيدة)
حمامة خضراءْ
حطت
على
قلبي
مبتلة بالحزن والبكاءْ
حمامة بيضاءْ
تخافقت
كنجمة
وحيدة….
ثم
اختفت
في
غابة
السماء
حمامة سوداء
تناوحت كالريح في العراءْ
ورفرفت
على
بحيرة المساءْ
فخلفت
في
مائها
خيطاً
من الدماء !
البصرة، خريف 1998
سبق لنا ان كتبنا عن الدلالة التعبيرية للون عند شاعرين من البصرة راحلين هما : عبد الخالق محمود ومصطفى عبد الله في مقالين منفصلين في صحيفتي الزمان (اللندنية) والأخبار (البصرية) وكنا قد تلمسنا وقتذاك أواصر قوية بين تجارب هذين الشاعرين وشاعر مجايل وصديق لهما هو مجيد الموسوي فيما يخص السمات التشكيلية للقصيدة وخاصة ما يتعلق منها باستخدام عنصر اللون ودلالاته وتحولاته في القصيدة , هذا أولا , ومن ثم وجدنا صلة أخرى في أسلوب الثلاثة حينما يرثون أنفسهم وهم أحياء فكتبت موضوعين منفصلين يتعلقان بثيمة ((رثاء النفس من خلال رثاء الآخر)) وتناولت فيهما تجربتي الشاعرين عبدالخالق محمود ومجيد الموسوي منذ ذلك الوقت بدأت تهيمن على تفكيري حقيقة بدأت تلقي بثقلها عليّ وهي ان هؤلاء الشعراء الثلاثة الاصدقاء تسمهم سمة مشتركة على الرغم من الطابع الذي تتفرد به كل تجربة من تجاربهم عن الاخرى.
ان النص الذي تعاينه الآن للشاعر مجيد الموسوي قد أهداه للشاعر الراحل مصطفى عبد الله ! وبذلك فقد تكرس إحساسنا بان (هندسة) الألوان في جسد قصيدة مصطفى عبد الله والتي تلمستها لديه في مقالي الذي أشرت إليه , كان قد تلمسه مجيد الموسوي هو الآخر , سواء بطريقة واعية (ثقافية) او بطريقة لا شعورية , حيث يكون قد تحسس سطوة الطاقة التعبيرية للألوان لدى ذلك الشاعر فأهداه قصيدته هذه لذلك السبب , مع إقرارنا طبعاً ان هذا افتراض لا نملك عليه دليلاً ! , ولكننا نشعر به بقوة. منذ العنوان يصطنع مجيد الموسوي الحياد فيبدو العنوان محايداً لا لون له ويشير لاستخدام عين الكاميرا فقط بل وكأنه يحيل القارئ إلى نص القصيدة دونما حاجة للعنونة , وهي آلية في العنونة يستخدمها الرسامون التشكيليون (موضوع 1 , موضوع 2 ,…. الخ) حيث يكون العنوان أمرا طارئاً على اللوحة كونه يقع في المنطقة (خارج بصرية). لقد جاء نص مجيد الموسوي (قصيدة) مكتظا بالألوان وكأنه باليتة رسام , بل لوحة لرسام ملون بارع ينجز مشهداً خلوياً يتوسطه بشكل عرضي خط الأفق , وذلك الخط الذي أدمنه طويلاً الرسام رافع الناصري فكان يؤطر بواسطته جملة معطيات دلالية أهمها الفعلان (حطت) و (رفرفت) اللذان يتخذان مكانيهما فوق خط الأفق وتحته
على التوالي , بينما تتخذ الألوان مجموعتين متقابلتين , قد تكونان أحيانا متنافرتين : (خضراء + بيضاء) مقابل مجموعة مقابلة (سوداء+ حمراء) وهما يقدمان دلالتين متقابلتين كذلك : دلالة الحياة مقابل دلالة الموت , وان ما يوحد تلك الألوان رغم تعارضاتها الدلالية , خيط من الحزن الشفيف ابتدأ منذ مطلع القصيدة (مبتلة بالحزن والبكاء) و (تناوحت) فاصطبغت كامل القصيدة به.
تنقسم أماكن الفعل هي الأخرى إلى زمرتين : زمرة علوية فوق خط الأفق (غابة السماء) وسفلية تحت خط الأفق (بحيرة المساء) وبذلك يكرس مجيد الموسوي دلالات تأثيث المكان واستثمار بياض الصفحة بشكل دال , مستنداً على خط الأفق كون الحدود الفاصلة ليست نقاطاً بين مكانين , بل وبين عالمين متواجهين دائماً. نعود أخيراً لنؤكد ان تناول نص مجيد الموسوي بعمق يكشف عن هندسة خفية لتحولات اللون مشابهة لتلك التي وجدتها عند الشاعرين مصطفى عبد الله و عبدالخالق محمود وخاصة عند الأخير في قصيدة (ألوان الظهيرة المائية) , فقد كانت تحولات لون الحمامة عند مجيد الموسوي في (قصيدة) قد بدأ (بحمامة خضراء… مبتلة بالحزن والبكاء) , ثم (حمامة بيضاء).. (وحيدة) ضاعت (في غابة السماء) , بينما كان تحولها إلى (حمامة سوداء)… (تناوحت كالريح) وهي ترفرف على (بحيرة المساء) فكان ما تخلف عناه ليس سوى الموت (= خيط من الدماء!) , وبذلك يشكل التحول اللوني للكائن قوس قزح ذات طابع دلالي وسايكولوجي يبتدئ باللون الأخضر ذي الدلالات المفارقة للآخرين (= الحزن والبكاء) , ثم الأبيض (= الوحدة) , فالأسود (= النواح) , وأخيرا الأحمر (= الدماء = الموت).