على هامش نقاش مع صديق حول المشاريع الفلسفية والكلامية في الفكر العربي المعاصر وضعني الذكاء الاصطناعي لهاتفي حينما دخلت منصة اليوتوب على رابط محاضرة بعنوان:” حيرة الايديولوجيا العربية المعاصرة (العروي – الجابري – طه عبد الرحمن)، للمفكر والفيلسوف المغربي إدريس هاني، صاحب مشروع التبني والاستيعاب الحضاري للتراث والحداثة، ألقاها بالورشة الإلكترونية الدولية التي أقامتها شعبة التعليم المستمر بالتعاون مع قسم الفلسفة على منصة كلية الآداب بالجامعة المستنصرية ببغداد.
الجدّة في المحاضرة التي أتمنى أن يعود إليها القارئ الكريم، تتجلى في التعريف الذي قدمه إدريس هاني للفلسفة باعتبارها “علم الحيرة”، وهو التعريف الذي قد يعتبره البعض تعريفا صوفيا للفلسفة باعتبارها “علم الحيرة”، وفي المعاجم العربية الأصيلة، الحيرة؛ إحالة على التردد والاضطراب، و احتار الرجل؛ ضلَّ سبيلَه ولم يهتد للصواب، والحيرة عموما دليل التردد والاضطراب وفقدان الطريق/المنهج القويم في تمييز الحقيقة من الوهم، الحق من الباطل، فالحيرة ليست غريبة عن تداولنا وتراثنا، ورجل حائر بائر «هالك فاسد» لا يأتمر رشدا، ولا يطيع مرشدا”، ومادام إدريس هاني يتحدث عن ثلاث أقانيم للفلسفة في الثقافة العربية فالقول دليل عن الحيرة والحائرين؛ ففيهم من أدرك سداد الطريق وإن اختلفنا معه ومنهم من تاه على عقيبه، و الحيرة دليل عن أصالة المفهوم في ثقافتنا، وهو مما يشير إلى قدرة الرجل على التأصيل الفلسفي بما يلائم فصيح اللسان ودقيق القول. في زمن التفاهة وعموم الاضطرابات وغياب الوضوح واليقين.
قد يعترض معترض آخر لكون هذا التعريف هو فصل للفلسفة عن العقلانية المميزة للخطاب الفلسفي، وإعادتنا إلى دائرة العرفان، لكن هل لازالت هذه الثنائيات اليوم القائمة على الفصل الذي أقامته الديكارتية في الفلسفة بين العقل/ اللاّعقل مقنعا بعد سيادة نزعة التخصص وظهور تباشير الإنسان الآلة Homme-machine؟ أليس اشتغال الفلاسفة اليوم في الأنطولوجيا أقرب إلى العرفان منه إلى العلم؟
في عصر الحيرة والاضطرابات وغياب اليقين، يستمد التعريف الجديد للفيلسوف إدريس هاني للفلسفة بكونها “علم الحيرة” عمقه وأصالته، في زمن لم يعد من الممكن أن نقول فيه أن العقلانية هي ما يميزنا، لأنه حتى chatgpt حين سألته شخصيا هل أنت عقلاني؟[1] أجاب؛ بأنه عقلاني، وهو ما يعني أن حصر علم الفلسفة وخصه بالعقلانية يقتضي اليوم إعادة النظر من أجل استئناف القول الفلسفي، والأعمق في هذه المحاضرة هو إعادة قراءة تاريخ الفلسفة باعتباره “تاريخا للحيرة” بالمرور عبر كبار الأسماء التي طبعت هذا التاريخ، قديما أو حديثا أو معاصرا، والحيرة هنا ليست موقفا نفسيا، بل هي موقف فلسفي وعملي يقع فيه الفيلسوف و مؤرخ الفلسفة وهو يسعى للتخلص من التمذهب الفلسفي؛ لكن في نفس الوقت يجد نفسه وغصبا عن إرادته متموقفا بشكل من الأشكال في التمذهب.
يشير المفكر المغربي إدريس هاني بعين الفيلسوف إلى ملاحظة دقيقة تقف على حدود الصراع الواقع تاريخيا بين هذه الثنائيات الموهومة؛ الفلسفة واللاّفلسفة، العلم وما يسمى لا علما أو سحرا، دون أن ننسى بأن العلم تاريخيا مدين ابيستيمولوجيا بالكثير لما يسميه: لاعلم أو أخطاء العلم بلغة باشلار، ألم يخرج الكيميائي من جبة الخيميائي قديما الفلكي من جبة المنجم، العالم من جبة الفيلسوف، الفيلسوف من جبة الحكيم، ألم يخرج العقل من براثين الأسطورة، وهو ما يلغي العديد من الأوهام المعرفية التي سادت باعتبارها حقائق عن تضاد العديد من الثنائيات؟ !
إن الأساسي لتفادي “الحيرة” كامن في تقوية القدرة الحجاجية في كل خطاب فلسفي عوض الفذلكات اللغوية واللّغوانية، فالحجاج هو الأداة التي دُبرت بها النقاشات والخلافات، ويجب أن تُدبر بها اليوم بعيدا عن كل حكم مسبق أو معرفة جاهزة. لذلك تسائل في مدار النقاش حول حصتنا وموقعنا في هذا المسار؟ هل طورنا وعيا / حيرة فلسفية قادرة على أن تبني وعيا جامعا في الفضاء العربي وتصالح الإنسان في نهضته مع الذات وتدفعه الى استيعاب مشتركه وتاريخه والبناء عليه؟
تضمنت المحاضرة مشروع أرغانون جديد، خاصة أن الطرح الفلسفي لإدريس هاني يركز على ضرورة التحرر من المنهج ومن أوهامه؛ والانتقال من “عبادة المنهج “بتعبير هاني ” ما يسمى -أصنام المنهج بلغة بيكون مع تصرف-، التحرر من وهم المنهج يمكن أن ينقلنا إلى روح الموضوع والاصطدام بروح القضايا وجوهرها من خلال استعمال “العبر-مناهجية، لتفادي الأيديولوجيا في العلم.
وعليه فالدرس الفلسفي المغربي بنظر إدريس هاني، منذ مؤسسه الحبابي، يحتاج إلى مقاربة أنثروبولوجية لخطاب النخبة (سبق لكروبر أن أشار الى ذلك وهو يميز الخطاب الثقافي العالم عن الخطاب الثقافي الشعبي- مستندا إلى العبر -مناهجية من جديد؛ ومقحما مفهوم الخطاب ونظام الخطاب في قلب المنهج الأنثروبوفلسفي الذي يتجاوز ثقل الاتنولوجيا في المقاربة الأنثروبولوجيا الصرفة، و حدود الوصف للظواهر الثقافية، بل يؤكد على نهج مقاربة أنثربوفلسفية لخطاب النخبة ولايديولوجيتها لنقف إلى أي حذ كانت لها سلطة على خطابها أم هي مجرد مفعولات تحركها البنيات بشكل ماكر وخفي وتوجه خطابها؟.
والجذير بالذكر أنه لأول مرة يعالج خطاب النخبة الفلسفية في المغرب باعتبارها ذوات لا واعية في إنتاج الخطاب، والعمق هنا كامن في النظر إليها باعتبارها جزء من بنية شاملة ومتحكمة في الخطاب وفي الأدوات المنهجية التي تشتغل بها، بل إن هذه النخب تصبح أسيرة للخطاب والمنهج الذي تنتصر إليه أحيانا على المستوى النظري، مما يحرمها التفكير بشكل شمولي في الموضوع كما هو؛ بل تنظر إليه كما يفرض عليها الاختيار المنهجي ذلك، وبالنسبة لإدريس هاني فالاختيارات المنهجية للمفكرين العرب كانت سببا في عقم مقاربتهم للقضايا التي فكروا فيها. مركزا على العروي والجابري وطه، وهو تفكيك للأقانيم الثلاثة في الثقافة العربية المعاصرة،
يقر إدريس هاني أنه من الناحية التاريخية، كان العروي هو من فجر سؤال الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وهو المحفز لكل ما كُتب من طرف الجابري وطه عبد الرحمان، لذلك يصعب أن نفكر فيهما بمعزل عنه، بل يجب أن ندرسهم باعتبارهم تجلي لبنية ثقافية عبروا عنها بشكل شخصي في مشاريعهم، ولا يمكننا فهم روح البنية إلا باستحضارهم جميعا، فنحن مطالبون بالتفكير معهم وضدهم في شكل مُتآن لنكشف عن روح البنية المحركة لخطابهم.
هناك نقطة استوقفتني في هذه المحاضرة، وهي ملفتة للنظر، وتكمن في إلغاء الفيلسوف المحاضر في مقاربته الانثربو-فلسفية لخطاب النخبة الفلسفية في المغرب لكل الحدود الفاصلة على مستوى المقاصد؛ بين الخطاب الشعبي والخطاب العَالِم، الخطاب الشعبي له في حكمته اليومية جواب على الإشكالات الوجودية الكبرى وهو منخرط في الحيرة الفلسفية، لكنه لا يمتلك لغة معيارية أو خطابا مؤسسيا للحجاج عليها، وهو ما يفقد إجابات العقل الشعبي اليومية شرعيتها في الحقل الأكاديمي.
العروي هنا في نظر هاني هو تعبير عن طبقة، وعن جيل طالب بتهميش الماضي التاريخي وليس التاريخاني، وفي رفضه للتراث عبر عن حيرة فلسفية/ تمذهب، الانحياز للحداثة بدافع من بنية مسلفنة (السلفية الوطنية)، بينما طه المنخرط في الحيرة من باب التداول لم يكن تداوليا، لأنّ شروط التداولية ناقضها في ممارسته لفعل التفلسف، والجابري والعروي كان أخلص منه للتداولية.
جواب الرشدية الذي ارتبطت بالجابري و دافع عنه الباحثون المغاربة؛ بيّن إدريس هاني أنها ليست مطلبا جديدا للجابري، بل هي دعوى قديمة سبق لها شبلي شميل / فرح أنطوان/ محمد عبده والعديد من المثقفين المسيحيين والعرب، الرهان على عقلانية رشدية لها زمانها وسياقها في الإجابة عن أسئلة فلسفية لزمان آخر، والعمل على استنساخها في نظر إدريس هاني مجانبة للقول الفلسفي المنخرط في “الحيرة”، وبدقة يبين أن ما يهم ليس نقل المضمون الذي يُعطى للمفاهيم، بل المفاهيم كأوعية هي الأساس، وعلى كل لحظة تاريخية أن تنخرط حجاجيا في تضمين وحشو وبناء المفاهيم بتصوراتها الملائمة لحقبتها التاريخية.
من الجدّة في المحاضرة: هو تدليل هاني على أن من ناشدوا الحداثة ورفضوا السلفية، هم في العمق حركتهم البنية السلفية، ووجهت فكرهم وإشكالاتهم، لذلك أجوبتهم صدرت عن حيرة فلسفية/ إنتاج موقف وجواب واضح ودقيق من البنية التي حركتهم، إنه في العمق (مكر التاريخ).
في سجال أقانيم الثقافة الفلسفية العربية بالمغرب؛ نخص الجابري والعروي: يدلل هاني ببراعة القارئ المستوعب للنص وللسياق، أن الجابري كان براغماتيا في مقاربته للتراث، بينما العروي كان واضحا في مطالبته بالقطيعة الكبرى، في هذه الحيرة نعود مرة أخرى للتمذهب والايديولوجيا، وللخرائط الأيديولوجيا الممزقة، بينما طه عبد الرخمان لم يكن انخراطه بنظري في هذه الحيرة سوى تعميقا للحيرة، وللسراب والتيه والاضطراب.
لا يمكنني أن أغفل في متابعتي لهذه المحاضرة المؤسسة للفيلسوف إدريس هاني -الذي أتابعه منذ 2005 بفضل أستاذي للفلسفة حينها محسن المحمدي، الذي منحني حوارا له في الثانية باكالوريا حول ” الإمكان الحداثي والإسلامي”- عن مداخلات الحضور من المشرق والتي تغير نظرة القارئ المغربي لهذا الجمهور الفلسفي العريض، خاصة علي حاتم /رئيس قسم الفلسفة بجامعة المستنصرية /الدكتورة فائزة وآخرين تخونني الذاكرة وأنا اكتب هذه الملاحظات، كانت مداخلاتهم تعيد وتغير نظرتنا التي دلس عليها زمن “الحيرة” بتصوير المشرقي دائما وجدانيا في تكريس لأكبر أكاذيب وتقسيمات الاستشراق، بل للفلسفة في المشرق روادها، لكنهم أكثر علما وتواضعا مقارنة بالعديد من المتنطعين لدينا. فليس القلب للشرق والعقل للغرب، العقل والقلب في الشرق تنتفي بينهما الحدود في هذا اللقاء لتجاوز الحيرة.
الزاهيد مصطفى[1]
[1] باحث من المغرب، أستاذ الفلسفة وباحث في سلك الدكتوراه، جامعة ابن طفيل؛ يييحضر أطروحة حول الأسس الفلسفية والعلمية لنشأة الحداثة خلال القرنين 17 و18
[1] يمكنكم طرح السؤال على chatgpt.com “هل أنت عقلاني” ، ولاحظوا جوابه بالتأكيد على أنه عقلاني.