مشاهد ممتدة لمساحات مغطاة بالثلوج ، وأشخاص يتحركون فيها بصعوبة وأنفاس متقطعة ، وحوارات لا تتوقف في أمكنة داخلية وأخرى مفتوحة لا تشعرك بان اصحابها يؤدون ادوارا في فيلم تمثيلي وانما بشر عاديون يتحدثون بتلقائية تامة . تدريجيا ستشعر وانت تمضي قدما في المشاهدة ، بانك قاربت على فقدان رغبتك في الاستمرار ، وهنا عليك ان تصبر وتمضي فانت امام فيلم من نوع خاص جدا ، انه الفيلم التركي ( عن الأعشاب الجافة) والقائم على يوميات بسيطة وحوارات مستمرة لا تنقطع بين أبطاله ( معلم الفن في المدرسة ساميت ، وزميله كنان ، والفتاة التي يخطط للارتباط بها ، المشرف ، المدير وبعض تلاميذ الفصول التي يدرسونها .. )
فيلم عظيم وعميق، يعتمد على الحوارات الذكية التي لا تتوقف بين شخصياته .
تفاصيل ويوميات وعلاقات معقدة لمجموعة افراد يعيشون في قرية تركية نائية تقع في منطقة أرضروم وخلال شتاء قاس ، يضعنا المخرج في مواجهة رمزيته الواضحة منذ اللقطة الاولى التي يسير فيها البطل بصعوبة خلال أكوام الثلج، متقطع الأنفاس .
ان الحكم على الفيلم بانه مجرد فيلم طويل وممل ليس سوى حكم متسرع جدا ، ووهم ذهني لا اكثر، لأن صناعة فيلم بكل هذه الحمولات المتضمنة هو ابداع حقيقي ، واكثر تعقيدا مما قد نتخيل، علينا فقط ان نذهب عميقا تحت طبقات الجليد التي تغطي القرية لنصل إلى العشب لنعرف مالمقصود بالأعشاب الجافة .
اللافت في الفيلم فعلا ، هو قدرة المخرج التركي نوري جيلان على صناعة هذا الفيلم الطويل جدا ( ٣ ساعات كاملة ) حول مجرد يوميات عادية وحوارات معلمين وطلاب لا تتوقف وبصوت وطريقة رتيبة ، وبين الشخصيات ذاتها ، ما يشعرك وكأنهم يحفرون ذواتهم وواقعهم وكل ما يتحكم فيه لاكتشافها وتفكيكها ومحاكمتها من خلال طاحونة كلام لا تتوقف ، انهم يحفرون الثلج المتراكم بأنفاس متقطعة متأرجحين بين اليأس والغضب والاغتراب ، اكثر مما يزجون وقت الصداقة او الزمالة .
ان تكرر نفس الاشخاص (المعلمون والطلاب) طوال مشاهد الفيلم ، ومن خلال حوارات وعلاقات أفقية في اغلبها ومتناقضة وكاشفة عن حقيقة ما يخفونه ، اشارة واضحة إلى خطورة دور الفرد في التغيير ، انطلاقا من المدرسة ، وباستخدام الفن والمواجهة وعدم الاستسلام رغم الخيانات واليأس وسيطرة الموروث ، وان وجود حرس الأنظمة الذين يطبقون النظام كما يكرر المشرف في المدرسة اشارة كذلك على الدور الشرس لحراس المنظومة للإبقاء على الوضع كما هو حماية للمصالح، لذلك فان الحوارات لا تتوقف والتغيير لا يحدث في مجتمعاتنا .
يقدم فيلم “عن الأعشاب الجافة” حكاية بسيطة تتعقد تدريجيا، انطلاقا من فعل درامي يضع شخصياته في حوارات ثنائية، إذ تظهر المعاني الوجودية لحياتهم وأفعالهم في مساحات جغرافية واسعة وأحيانا غريبة، مثل الحقول والثلوج، التي تبرز جمالا دراميا، في مدينة أرضروم بشرق الأناضول، وتتنقل شخصيات الفيلم في علاقتها مع المكان النائي، مع التركيز على تطلعاتها وهواجسها تجاه الحاضر والمستقبل.
في النهاية هل يمكن أن يذوب كل هذا الجليد الذي يغلّفنا وان يظهر العشب اخضرا وليس جافا ؟؟
هذا الموقع يستخدم الكوكيز. من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع فإنك تعطي الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط. لمزيد من الإطلاع في هذه الصفحة سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط. أوافِق