لقد لمعت المرأة السومرية في ميدان الأدب والكهانة والحكم وهذا ما كان واضحاً وبخاصة في الحضارة السومرية التي سجلت رقياً حضارياُ, وابراز دور المرأة ومكانتها الاجتماعية والدينية فهي الالهة والام ومصدر الحياة واصل الموجودات وهي المقدسة والكاهنة, وهذا ما انعكس على المستوى الاجتماعي فتمتعت بحقوق واسعة وصلت إلى حد تعدد الازواج وتتبنى الاطفال, وعلى الصعيد الاقتصادي فقد تميزت بحقوق التملك والاشتغال بالتجارة وتقاضت أجر الرجل نفسه في اعمال الزراعة في الحقول, وعلى الصعيد الثقافي اشتهرت كعازفة موسيقى وكاتبة, وتقلد المناصب العليا.
وكان من اللافت في الحضارة السومرية تميز المرأة وتخصصها في مهنة الكتابة، اذ تشير بعض النصوص المسمارية إلى أن التعليم لم يكن مقتصراً على الذكور، بل يشمل كذلك الاناث ايضاً وكان بإمكان بعضهن التعلم ليصبحن كاتبات متمرسات فيما بعد.. ومشاركة الذكور في سلك التعليم، كما تبن ان اعداد الكتابة في بلاد الرافدين كان كثير وهو ما يؤثر حالة حضارية متطورة للمجتمع شكلت حضوراً متميزاً في خارطة بلاد النهرين، وعلى الصعيد الفني مارست المرأة العزف والغناء، فالمعروف ان الموسيقى وآلات الطرب وهي احدى ابداعات وادي الرافدين, فقد استعمل العراقيون القدامى الموسيقى للتعبير عن مشاعرهم في مجالات مختلفة منها الاحتفالات الدينية والدنيوية, وشاركت المرأة في هذا المجال ابتداء من عصر فجر السلالات وحتى اواخر الادوار الحضارية القديمة في وادي الرافدين.. وتبدو ان هذه البيئة قد انطلقت منها ملكة الفن والذوق الملكة شبعاد (بو- آبي) وتسمى ايضاً شبعاد السومرية (سيدة الحلي والزينة) وكانت شخصية مهمة في مدينة اور السومرية خلال عصر الاسرة الأولى من اور حوالي العام 2600 ق .م.. وهي زوجة الملك (آباركي) وقد دفنت إلى جواره لحبها له, وقد عثر في قبرها على ثلاث اختام اسطوانية نقش عليها اسم (نين) و (اريش) وتعني بالسومرية الملكة الكاهنة حسب بعض الاستدلالات.
ولم تحظ اي امرأة سومرية شهرة الملكة شبعاد, اذ كانت تتمتع بذوق رفيع في اختيار الادوات الدقيقة الصنع التي صنها لها فنانون مهتمون بهذه الصناعة كالذهب والاحجار الثمينة الاخرى وهذا يكشف عن المستوى الفني الذي وصل إليه هؤلاء الفنانون في عصر السلالة السومرية الثانية ونهاية العصر السومري الحديث.
لقد كانت الملكة (بو- آبي) تختار بنفسها ادوات المائدة الانيقة من ارقى المعادن وهو الذهب، كما اختارت القلائد المصنوعة من الذهب والفضة والاحجار الكريمة، وقد عثر عليها في المقبرة, فضلاً عن شرائط ذهبية وزهور تعتبر من زينات الرأس البديعة, وقد اختارتها بعناية فائقة.
لقد اهتمت هذه المرأة السومرية بجمالها وزينتها التي لم تسبقها امرأة في كل العهود في تقديم اشياء ابداعية تضفي على المرأة جمالاً اكثر وتعطيها الصفة الكاملة للقدسية الملكية، واعطاء الدرس في الاناقة واختيار الموضة للعصر الذي تعيش فيه هي وكل الفتيات السومريات, وهذا اوج ما وصلت إليه المرأة في العهد السومري من الحضارة والتقدم.
وما دامت هي التي اختارت الاواني الذهبية لمائدتها الملكية وادوات زينتها النادرة فلا تستبعد كونها هي التي اشارت على الصناع المهرة ان يصنعوا لها اكليل الرأس النادر والذي لم يشاهد من قبل في العهود السومرية السابقة عند النساء اللواتي سبقت الملكة شبعاد, وهذا الاكليل من الذهب الخالص المصمم على شكل اوراق الصفصاف أو اوراق شجر الزان المزخرفة بالذهب, وكان هذا الاكليل يضفي مهابة واجلال للملكة شبعاد, ويبدو ان جزء من الثقافة السومرية التزين والالوان ولبس الحلي والتجمل بملابس النساء وحتى بالعلم السومري أو بالأعياد والطقوس آنذاك.
وتذكر المصادر التاريخية ان عمر الملكة السومرية شبعاد اثناء وفاتها يقدر الاربعين سنة، وقد وجدت ممددة على سرير من الخشب ومعها وصيفتان الأولى عند رأسها والثانية عند قدمها، وكانت ترتدي فوق ملابسها ثوباً قصيراً لحد الخصر وهو عبارة عن سلاسل من الخرز المصنوع من الذهب والفضة والاحجار الكريمة، وكانت هذه السلاسل تنتظم بخيوط وتتصل بطوق حول العنق ثم تتدلى هذه الخيوط على الاكتاف، اما الاقراط التي تلبسها كانت اقراط هلالية الشكل كبيرة الحجم, وهي غير مسبوقة في جميع الحلي والجماليات في السابق.
ونظراً لما تتمتع به هذه الملكة من مركز رفيع فقد دفن معها 59 شخصاً وكميات كبيرة من الحاجيات الثمينة والعربات والادوات, ولكن من الملاحظ عدم وجود اسم هذه الملكة وزوجها الملك (آباركي) في جدول سلالات الملوك, مما دفع بعض المنقبين إلى اعتبارها من ضحايا الزواج المقدس وهي احدى الطقوس السومرية التي كانت تقام لضمان الخصب والرخاء في البلاد, ففي هذه المراسيم كان الكاهن الاعلى أو الملك أو من ينوب عنه يقوم بدور الإله ويتزوج من احدى الكاهنات التي تتمثل بدورها الهه الخصب وذلك وسط ترانيم وصلوات وطقوس دينية معينة.
ولعل ابرز ما تركته ابداعات هذه الملكة السومرية القيثارة السومرية وعرفت باسم قيثارة سومر أو قيثارة اور وهي اداة موسيقية ذات اوتار, وتعد اقدم آله موسيقية عرفها التاريخ, وقد وجدت القيثارة السومرية في اور في مقبرة الملكة شبعاد, وقد تم العثور عليها عام 1929, وهي متواجدة في متحف الاثار العراقي (قاعة السومريان) في بغداد, ويرجع الفضل في اكتشافها إلى المنقب (ولي) وتعد هذه الالة المفتاح الاساس لصنع كل الآلات الوترية, وقد اختلفت الآراء في سبب اختيار راس الثور على مقدمة القيثارة ومن اقرب التعاليل إلى ذلك ان الثور كان مقدساً لدى شعب ما بين النهرين منذ القدم وكانوا يزينون حتى تيجان الملوك به, لذا قاموا بوضعه على مقدمة القيثارة, وقد تم العثور في المقبرة الملكية للملكة شبعاد على اكثر من قيثارة منها ما كانت مصنوعة من الذهب واخرى من الفضة.
وكانت العازفات في المجتمع السومري تشارك في الاحتفالات الدينية التي تقام في المعابد وقد وجدت في الآثار السومرية نقوش لصور عازفات آلات موسيقية كالقيثارة والمزمار والطبل.
لقد استحالت شبعاد (الاسطورة السومرية) إلى رؤية انسانية ابداعية بوصفها نوعاً من الارتجال نحو اللاوعي الجمعي، وضمن هذا المسار تندرج تجربة الشاعرة المقربة رحيمة يلقاس في ديوانها الأخير (رقص على عزف الغياب) اذ تقول فيها:
ايا أنت!
ايتها الجميلة شبعاد
اعزفيني على اوتار قيثارتك الذهبية
زلزلي صمت العيون السجية
وارقصي على سمفونية
هذا الليل الشجي
الموقظ لذاكرة الظلال
ايتها الجميلة شبعاد
اعيدي لكون الظامئ للحرية
أغانيه القدسية
لتقام الطقوس المخملية
الساكنة في صوتك الخرافي
واعيدي للأمنيات ألوانها القزحية
ايا أنت
ايتها الجميلة.. شبعاد.
وهنالك قصيدة للشاعرة سعاد السامر عنوانها (قيثارة شبعاد) تقول فيها:
قيثارة شبعاد تعزفُ بحزن انيق
ابيتها المرأة العظيمة الفاتنة بحليها
المفتونة بالتاج واهب الحياة
هل فعلاً تمطرين النار بالبلاد
حورية نار انت يا إلهة الجمال عشتار؟
أم نارك الممطرة من قساوة قلب الملوك
منذ عودة الملوك من الجنة ليحكموا البلاد
من ابناء سومر
علموا العالم كيف تكون الحضارات
أول الحرف وأول المدن وأول القوانين
وأول العشق لا زال هنا.
لقد مثلت شبعاد رمزاً سومرياً للذوق والون والموسيقى والزينة، فقد اسست لقواعد التعامل والسلوك الملكي، والجدير ذمره هو محافظتها على خاصيتها كملكة, فلم تعزف على القيثارة رغم شغفها الكبير بها.. فكان اهم ما يميز ذوق الملكة قيثارتها التي صنعت بإتقان وبراعة مما يدل على أنها حصيلة نتاج فني كبير اذ استخدم في الاحتفالات الخاصة والعامة, واستمرت القيثارة بالعزف حتى آخر لحظة من حياة الملكة, وقد دفن معها رأس ذهبي مصنوع من اوراق ذهبية وخواتم والواح واكسسوارات ذهبية مرصعة باللازورد والثيران المصنعة والعديد من ادوات المائدة من الذهب والعقيق الأحمر التي رافقت الملكة السومرية التي مثلت رمزاً عراقياً وعكست ما حظيت به المرأة السومرية من سمو ورفعة في المجتمع القديم, لذا استحق الملكة شبعاد حياة باذخة وموتاً فاخراً واصبحت شاهداً على دور المرأة الرفيع في الحياة الانسانية, فهي تشكل عنصراً تكاملياً مع الرجل.