د. علي حجازي
كانت عقارب الزمن تضغط بثقلها على مسامع أبي الصامد وحيداً في وجه مصاعب الحياة. فلا زراعة تسدّ الحاجة، ولا مصانع تقبله عاملاً فيها. ويومها، لثلاثين سنة خلت، كنت أفيق بتثاقل على هذا الواقع المأسوي المرّ، أتجرعه ببطء مع الحليب البلدي الطاهر. إذ وحدها المواشي، كانت تدرّ للإنسان الجنوبي حليباً صافياً، وخدمات جلي، من دون أن تذبحه، وتسلخ جلده، لتأكل اللحم وترمي العظم
وهاجر أبي مكرهاً هجر القرية، وعيون أطفال سبعة تودّعه دامعة. وكانت أمي تصرّ على أسنانها لئلا نشعر بوجعها. إلا أننا كنا سبقنا الزمن، وصرنا نتعرف إلى القهر المرتسم تحت رموش عينيها. صرنا نسابق الدمعة إلى خدّها، فنقدرها منازل
ودعنا أبي عند الفجر في المحطة، وركب «البوسطة»، ثمَّ لوّح إلينا بيديه وقال مبتسماً والغصّة تخنقه: “لا تخافوا يا أحبائي.. سأعود». وابتعدت “البوسطة”، وأبي يقترب من قلبي أكثر وكلماته ترنّ في أذني
“لا تخافوا يا أحبائي، سأعود”. وصرت أتساءل: “إلى أين سارت “البوسطة” بأبي؟ أين ستتركه؟ ماذا سيفعل؟ وكيف ومتى سيعود؟». وكنت كلما اتجهت نحو أمي لأسألها، كانت تسرع لتمسح دموعها، لكي لا أراها وتقول لي، حتى قبل أن أسألها: “لا تخف يا حبيبي. يعود”. وتمسح على شعري، وتربت على كتفي قائلة
– هيا إلى دروسك يا حبيبي، بعد قليل يهبط الظلام، ولا كاز عندنا، الضيعة كلها تشكو من قلّته. وكنت كلما اجتمعت بإخوتي سرّاً، نروح نتساءل بصوت منخفض، خشية أن تسمعنا، وتقنعنا بقرب عودته
أين ذهب والدنا، ومتى سيعود؟ ولم يخطر ببالنا مرّة واحدة أن نسأل: ماذا سيحضر لنا عند عودته. وحده أخي أحمد البالغ من العمر خمس سنوات قال: غداً سيأتي أبي، وسيحضر لي “لعبة وحلوى”، وقد شدّ انتباهنا هذا القول، حتى أخذنا نعزّي أنفسنا بعودة أبينا مع الألعاب والحلوى. وهنا، وجدنا حلاً لمسألة غياب أبي، وصرنا نردّد: “إن الآباء يذهبون ليحضروا معهم ألعاباً وحلوى”
وأخذنا نعدّ الأيام، ونكرّر الأسئلة على أمّي، حتى أضحت تتذمّر من الأسئلة. وكنا نتجمع حول معلم الضيعة وهو يقرأ رسالة قادمة خطتها أنامل أبي. ويقول فيها: “لا تخافوا، غداً، سأعود وسأحضر لكم معي العاباً وحلوى”
الله! وهل يعرف أبي بماذا يفكر أحمد؟ وصرنا ننام على الأمل، ونعدّ الأيام
وحدث ما لم يكن بالحسبان مرض خبيث قطع علينا تخيلاتنا بالمستقبل السعيد، فقد فاجأ أطفال البلدة مرض “الحصبة” المعروف “بالدشيشة” الخبيثة. وهذه كأس يتجرّعها كل طفل
وطبعاً، هذه المعلومات، عرفناها من أمي التي كنا نقلقها بأسئلتنا المملّة، حتى قالت لنا أخيراً
يا أبنائي، “لا معيشة إلا بعد الدشيشة”. وأخذنا نفكّر “بالدشيشة” والمعيشة، إلى أن دقّت باب بيتنا، ودششنا جميعاً، فاحمرّت منا الوجوه، وسابقتها العيون، وكرهنا الأكل. وظل أخي أحمد يردّد كمن يهذي من شدة الحرارة “غداً يعود أبي باللعب والحلوى”
وفتكت الملعونة بأطفال عديدين من البلدة، ولا مُدافع عنهم ولا رادّ ولا معين. وبدأنا نتعافى، وأمنا تكدّس علينا الملابس الصوفية. وتخاف علينا من “النكسة”. النكسة؟. النكسة
وبقينا نسأل عن شكل النكسة ولونها، حتى شاهدنا أخي أحمد يتلوى بين يديها ويصرخ، وهي تبكي. مَنْ ينجدها وينجد أخي تلك الليلة، وكبيرنا لا يتجاوز العاشرة؟. وسمعتها تقول وكلماتها تمتزج بدموعها
“أين أنتً يا أبا العبد؟” أحمد ينازع ولا أحد بقربي. خرجت مسرعاً أنادي خالي، فلم يكن في المنزل، ورجعت والظلمة تأكل أزقة الضيعة، ورسومها، وتحوّلت معها كل المعالم إلى سواد
وتعثّرت وأنا أسلك درب بيت السيّد إبراهيم وطرقت الباب بعنف وخوف، وسأل: من الطارق؟
– أنا يا عمي افتح
– ماذا تريد في هذا الليل البهيم يا عمي؟
فاختصرت الموضوع بكلمات طالباً المساعدة في إيجاد حلّ
فقال لي: انتظر. انتظر، سأستخير لك الله
وتساءلت ببلاهة: وماذا تنفع (الخيرة) أخي أحمد؟
قال لي اسكت يا صبي، فإن كانت (الخيرة) جيّدة، فغداً تذهبون به إلى الطبيب
وأسرعت وقطعت عليه الحديث
– وإن لم تكن كذلك، فما العمل؟
– قلت لك لا تقاطعني. إن كانت غير جيدة فيكون… (وصمت)
وأخافني صمته. وسألت من وراء ثقوب الباب
– ماذا يكون يا عمّي؟
فتجرأ وقال: الولد بعد الدشيشة يصاب بالنكسة، والنكسة أخطر، وطالما أخوك مصاب بالنكسة. فما عساني أفعل بحالته؟ فهو الآن بحالة خطرة
وعدت أسأل عن معنى “يكون…”
فأجابني بصوت متجهم: يعني: الله يرحمه
وأسرعت، لا أعرف كيف أصرخ في ذلك الليل الرهيب، الذي لا يُسمع فيه إلا عويل نائحة على إبنها هنا، وباكية على ولد غادرها لتوّه وإلى غير رجعة هنالك
هناك، ووسط الصمت الرهيب والعتمة القاتلة. وغياب المستوصفات والأدوية والأطّباء، عدت مسرعاً أفتّش عن طريقة أنقذ بها أخي. ماذا يمكنني أن أقدّم له؟
وارتفع صراخ المسكين، وراح يغطّ بعده في هدوء شبيه بالإغماء، وأمي تبكي، وتشاركها بعض نساء الحارة، اللاتي حضرن للمواساة والمساعدة، وأية مساعدة؟
وما أن فتح عينيه لحظة، حتى سألته بلهفة: أتشرب؟ قال
– لا. أريد رؤية أبي يحمل لعباً وحلوى
بقينا كذلك حتى الفجر، حيث غادرتنا أمي إلى صور. على متن البوسطة، لتعرضه هناك على الطبيب. وتسمّرنا. لم نأكل ولم نشرب. وأحسست بخنجر يقرع باب صدري حيال طلب لا أستطيع تنفيذه، وكيف لي أن أحضر أبي إليه تلك الليلة؟
لم تمض ساعات حتى عادت سيارة سوداء، فيها امرأة تلوّح ببقايا منديل مزّقته حزناً على طفل صغير مات اسمه “أحمد”، على أخي الذي لم يجد من يحميه من “الحمّى”
وبكيت يومها كثيراً حينما سمعتها تقول
يا حَزَني، مات وهو يقول: “غداً يعود أبي ويجلب لي لعبة وحلوى”
ومع عصر ذلك النهار، ودعناه إلى المقبرة، فصرتُ أمنّي النّفس بأن يحضر أبي، ولا يكون أحدنا قد غادر إلى الأبديّة. ولمّا عاد ومعه ألعاب وحلوى، كان اشتراها، أسرعتُ حافي القدمين إلى قبرٍ صغير يحتضن برفق ضلوع أخي أحمد. ووضعت عليه لعبةً وقطعةً من الحلوى. وبكيتُ قبل أن أودعه وأعود. ومن يومها، وأنا أكره الألعاب والحلوى
ملحوظة
حدث هذا منذ ستّ وخمسين سنة
قبريخا – جبل عامل
غرفة 19
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران