في تحري معنى اسم مدينة بغداد، عاصمة العراق الشقيق، صادفنا القول إن مفردة «بغداد» عبارة عن مركب من مفردتين أصلهما فارسي: «باغ» وتعني الله، و«داد» وتعني موهوب، فيصبح المعنى إذاً: الموهوب من الله، أو «هبة الله». لست مطمئناً إلى صحة هذا التأويل، ولكني على ثقة بأن الأشقاء العراقيين، وأهل بغداد خاصة، سيقطعون شكّنا باليقين، كون أهل بغداد أدرى باسمها.
تذكرون الأغنية الفيروزية الشهيرة عن بغداد، التي تنسب كلماتها إلى الأخوين رحباني، وبالذات إلى عاصي الرحباني، والتي يقول مطلعها: «بغدادُ والشُّعراءُ والصُوَرُ/ ذَهَبُ الزمانِ وضَوعُهُ العَطِرُ/ يا ألفَ لَيلةَ يا مُكَمّلَةَ الأعراس/ يَغسِلُ وجهَكِ القمرُ/ بغداد هلْ مجدٌ ورائعةٌ/ ما كان مِنكَ إليهِمَا سَفَرُ/ أيّامَ أنتِ الفتحُ ملعَبُهُ/ أنّى يحُطَّ جَناحَهُ المطَرُ».
والحديث عن بغداد الشعراء ليس آتياً من فراغ. حتى شوارع مهمة فيها تحمل أسماء شعراء، كالمتنبي وأبي نواس. أعطت بغداد، والعراق كاملاً، أجيالاً من الشعراء وأنهاراً من الشعر العذب ما زالت تتدفق، كما تتدفق مياه دجلة، وكيف يأتي الذكر على الشعر ودجلة دون أن يحضر محمد مهدي الجواهري، الذي ناجى النهر، وهو بعيد عن الوطن، فقال القصيدة التي غنّاها بصوته الشجي الفنان الراحل فؤاد سالم: «حيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني/ يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ/ حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به/ لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين/ يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ/ على الكراهةِ بين الحِينِ والحين/ إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ/ نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني»، وعن دجلة قال أحمد شوقي: «يا شراعاً وراءَ دِجلةَ يَجري/ في دموعي تجنَبتكَ العَـوادي/ سر على الماء كالمسيحِ رُويداً/ واجرِ في اليم كالشعاع الهادي».
بغداد ليست الشعر وحده. إنها الحضارة والعمارة والفكر والعلم والفلسفة، ونقف عندها اليوم لأنه، وقبل أيام قليلة، بالضبط في الخامس عشر من هذا الشهر، مرت ذكرى تأسيسها قبل نحو 1262 عاماً على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور لتكون عاصمة الخلافة العباسية، في عام 762 للميلاد (145 هجرية)، واستغرق بناء المدينة 4 سنوات، في موقع بين الكاظمية والكرخ الحالية، كانت في وسطه قرية تسمى بغداد، وأطلق، يومها، على المدينة الجديدة اسم «مدينة السلام».
لكن تاريخ مدينة السلام لم يكن سالماً في الكثير من المراحل. المدينة التي أعطتنا ما أعطتنا من حضارة وثقافة وعلم، ومن أسماء كبيرة تظلّ حية، عرفت الكثير من الحروب والفتن، وكانت هدفاً للغزاة القادمين من البعيد ليحتلوها، وفي كل احتلال عاثوا فيها فساداً، بدءاً من اجتياح القائد المغولي هولاكو، وانتهاءً بالغزو الأمريكي ومفاعيله المدّمرة حتى الساعة.