وكأنّ قدر الإنسان فيها أن يجترح المعجزات من الغيم، ففي كلّ صباح ثمّة أمل يلملم صورًا تمنحه القدرة على الاستمرار، ويضع تصورًا جديدًا، ليهزم فيه النكبات والانكسارات، ويقاوم أنواع الألم جميعًا، فيبدع، وماذا غير الإبداع، الكلمة، يستطيع أن يستخدمها كقارب يخرج به من صور المشاهد اليومية، فكلّ شخص التقيته في عينيه تجسّد بحر من كلمات نازفة، وأخرى بحيرات من أمل تقشط كثبان الوهن عن الجسد، يجمع أوراقه المبعثرة، يجلس حولها متأمّلًا: الحياة والموت ودورة الكون
صور تهتزّ لها مفاصل المسكونة، وعند النقطة الفاصلة يدفع بسيل الأوجاع نحو موقد الأمل مستجديًا التراب والحصى والأزمات ليصيرها شكلًا من أشكال الأدب، أدب المأساة أو الفاجعة. في بيروت ناس التقيتهم للمرة الأولى، وناس لم أعرفهم، وعندما عبرت بمرفأ بيروت رأيتهم ينظرون إليّ، وسمعت ماء البحر يناديني، وعروسًا تستجدي مَن يطفئ حريقًا اعتراها دون أن تدري ذنبها
اضطرب وجداني، فماذا أقول وعن أيّ معرض سأتكلّم والإنسان المشظّى المهشّم يطوّق عينيّ، وسؤال في ذهني: ماذا سيكتب التاريخ عنه، وهل سينصفه حيث خانه، واستغلّه أقرب الأقربين، وبيع من القريب قبل البعيد
يومًا بعد يوم تزداد دهشتي، وأنا أرى ابتسامات تمزّق نياط القلب، فقط ليوهمنا أصحابها أنّهم أقوى من الموت. شاخت الكلمات، وهرمت الكتب، وهي في ريعانها، فالحاضر رمادي، وحده الأرز على قمم الجبال أخضر، يمدّني بأوكسجين الأمل، حتى بعد تقطيعنا إلى أشلاء
كلما ضاق فضاء الحرّية اتسعت الجريمة، وكلما شحّ قلم الإنسانية على منبر الإنسانية الحرّ، ازدادت فرصة الرحيل عن الوطن للمبدعين، ومتى فرغت الأوطان من مبدعيها أصبح البشر أكثر ضراوة وقسوة، ولقمة سائغة في فم الكوارث
لا أحبّ أن أختم باللون التراجيدي الذي أمقت، فأنا أعشق الأزرق، ليتني أملك مفتاح اليأس أوصده بكلّ ما أوتيت من شعر وحبّ، ونبدأ عامنا الجديد بشغف الحياة