بقلم الأكاديمية د. وافيه حملاوي/ الجزائر
إنّ أهمّ ما يميّز فكر ما بعد الحداثة هو إعادة النّظر في مفهوم العلاقة بين المركز والهامش: المركز القويّ والهامش المقصي، على سبيل المثال: (الرّجل/المرأة)، (السيّد/العبد)،(المدينة/القرية)،(الأبيض/الأسود) وغيرها من تمثّلات المركز والهامش
فالعلاقة بين طرفي هذه الثّنائية –المركز والهامش- قد تأخذ صيغا مختلفة: التّضاد، التضام، التّنافر، التّفاعل، التّداخل، وبذا وذاك تتميّع الحدود وتتداخل الفواصل، وتتغيّر مسمّيات المراكز والهوامش بتغيّر الأطر التّاريخية والثّقافية والاجتماعية
فالهامش مكوّن محصور ومحاصَر بعيدا عن مواقع السّلطة والنّفوذ والقوّة إلى غير ذلك، ما يعني عزله وتغييبه عن أيّ دور ممكن خارج دائرة الاهتمام والتّأثير
يُعدّ الأدب أحد أهمّ مجالات النّشاط البشري ارتباطا بإشكالية العلاقة بين المركز والهامش، أي إنّه أكثر المجالات تعبيرا عن الجماعات الإنسانية المركزية منها أو المهمّشة
ففي ظلّ التحوّلات الكثيرة التّي تشهدها المجتمعات العربية اليوم: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، احتدم الصّراع بين المركز المهيمن والهامش المقصى، واتّسعت الهوة بينهما، ولعلّ رواية الكاتبة “نهى عاصم” قد كانت صورة عاكسة لما يحدث في المجتمع من تغيّرات، محاولة تقصّي أشكال التّهميش الشّائعة سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم جغرافية أم سياسية، وتسليط الضّوء عليها، وكشف المسكوت عنه فيها
لقد التفتت الرّوائية في روايتها إلى الطّبقات المهمّشة جاعلة منها موضوعا سرديا دسما، لذلك فقد جاءت هذه الدّراسة مقسّمة إلى ثلاثة عناوين أساسية، وهي كالآتي
1/ الهامش الاجتماعي
إنّ للسّرد إمكانات هائلة تمكّن الأديب من تصوير واقع المجتمعات وتجسيد ظروف المهمّشين والمقهورين فيه، ولاشكّ أنّ السّياقات السّياسية والثّقافية كان لها دور مهمّ في الالتفات للهامش من قبل الرّوائيين
إنّ بعض شخصيات الرّواية كما قدّمتها لنا الكاتبة شخصيات “لا مركزية” تعاني التّهميش بدرجات متفاوتة؛ فـــ (المرأة) على سبيل المثال قد تعرّضت ومازالت تتعرّض للظّلم الذّي طالها من طرف المؤسّسة الاجتماعية عموما والذّكورية خصوصا، ناهيك عن عوامل أخرى مصاحبة كحرمانها من التّعليم ومن حقّها في الميراث، وتكريس النّظرة الدّونية نحوها من خلال توظيف الخطاب الدّيني بما يخدم المنظومة الذكورية دون سابق فهم أو وعي
صوّرت الكاتبة في روايتها فئة من النّساء اللّواتي يتعرّضن للإساءة والإقصاء من المجتمع، وهنّ فئة المطلّقات؛ حيث لا تفارقهنّ نظرات اللوم والعتب، وكأنّهن مسئولات عن وضعهن، فالمرأة في المجتمع أوّل من تُوجَّه إليها أصابع الاتّهام، وسياط الجلد، فهاهي (هالة) بطلة الرّواية تردّ على سؤال ابن عمّها (سامي) قائلة: (كان عندي صديقات كثيرات خسرتهن مؤخّرا لأني أحمل لقب مطلّقة، ألا تعرف أنّ المطلّقة ينظر لها المجتمع كخاطفة رجال محترفة؟) (نهى عاصم: يناديها روح، ط1، دار غراب، القاهرة، 2021، ص57)
إنّ المرأة في مجتمعاتنا العربية مضطرّة لأن تتحمّل جميع أنواع الإهانات والإساءات اللّفظية والجسدية، فقط حتى لا يتمّ نعتها بالمطلّقة، لأنّ وزر هذا اللّقب ولعنته ستلاحقها إلى الأبد. تسرد لنا الكاتبة على لسان إحدى شخصياتها معاناة فتاة شابة ذهبت للعلاج، تقول جدّتها: (ضربها زوجها عدّة مرّات، وقلت لابني عليه أن يطلّقها، لكنّ ابني رفض أن تحمل ابنته لقب مطلّقة، فماكان من هذا المخبول أثناء ثورة من ثورات غضبه، إلّا أن رماها بالموقد فاشتعلت فيها النّيران، ووقف ينظر إليها بكلّ برود، ثمّ فرّ من البيت والقرية، ولولا أن تداركتها عناية اللّه لكانت ماتت، وعادت لبيت أبيها كما ترى مشوّهة الجسد والرّوح) (نهى عاصم: يناديها روح، ص78)
يمارس المركز (الذّكوري) نوعا من الإقصاء على الهامش (المرأة)، وهي حقيقة مثبتة لا يمكن لأحد إنكارها أو التّشكيك فيها، فالمطلّقة والأرملة والعانس واليتيمة التّي لا تملك أيّ سند يحميها، تُمارَس ضدّها شتّى أنواع الإساءة، فتعيش هذه الفئة في الظلّ في مقابل المركز الذّي يحظى دائما بالسّلطة والسّطوة والهيمنة المطلقة
حاولت الكاتبة خلق نوع من التّوازن بين الهامش والمركز، من خلال ملامح شخصية بطلتها (هالة) المطلّقة التّي كانت نموذجا للمرأة القيادية المؤثّرة، والتّي لم يثنها مرضها عن تقديم يد العون لكلّ محتاج، كما أنّها أسهمت وبشكل فاعل في محاولة إنعاش السّاحة الأدبية والنّقدية والثّقافية من خلال صالونها الثّقافي الذّي افتتحته رفقة زوجها (سامي)، فالمرأة لا يختلف دورها عن الرّجل، فكلاهما يسعى لتكميل الآخر وتحقيق التّوازن للحياة، وهي الفكرة التّي ركّزت عليها الكاتبة وحاولت إيصالها للقارئ
شريحة أخرى من المجتمع عانت وتعاني التّهميش أطلقت عليها النّاقدة الدّكتورة “هويدا صالح” تسمية الهامش الجغرافي، حيث ترى أنّه (لا يمكن مقاربة موضوع “الهامش الاجتماعي في الرّواية” دون التوقّف طويلا أمام الهامش الجغرافي لأنّه يُعدّ أهمّ الأسباب التّي يُصنَّف النّاس على أساسها ومن خلالها إلى مركز وهامش) (هويدا صالح: الهامش الاجتماعي في الأدب- قراءة سوسيوثقافية، ط1، دار رؤية، القاهرة، 2015، ص190)
لقد صوّرت الكاتبة “نهى عاصم” في روايتها حياة النّاس في القرى والأرياف الواقعة على أطراف المدن الكبرى (المركز)، تصويرا دقيقا ناظرة إلى هذه البيئة بعين التّعاطف، حيث لم تُدنها ولم ترفض المستوى الاجتماعي المتدني الذّي يغرق فيه النّاس، بل قدّمتها بصورة إنسانية للغاية راصدة مشاكل هذه الفئة وعوزها واحتياجها وافتقارها لأبسط شروط وضرورات الحياة. يقول بطل الرّواية (سامي): (ما إن ترك الأوتوبيس حدود مدينة الإسكندرية حتّى صُدمتُ بالهوة الواسعة بين المدينة والقرى التّي نمرّ بها، والبادي عليها الفقر، وأحسست أنّ الزّمن يعود بي عدّة عقود للوراء
ما هذا الفقر والبؤس؟
أين الآدمية؟
كيف يعيش هؤلاء النّاس؟
هذا الفقر ليس نتاج سنة أو عقد، بل نتاج عقود من استيلاء فاسدين على خيرات البلد، ضنّوا بها على الشّعب) (نهى عاصم: يناديها روح، ص72)
في المناطق المهمّشة تغيب أبسط شروط الحياة الكريمة، حيث تصل في كثير من الأحيان إلى عدم توفّر مستشفيات أو مراكز صحية، ما يدفع بالأفراد إلى التنقّل مسافات طويلة من أجل فحص يجرونه. (إنّ مثل هذه البيئات غالبا ما تكون مستلَبة ممتلئة بالصّراعات ومظاهر الاستلاب، ولا يقع الاستلاب من المركز على الهامش فقط، بل يقع من المجتمع الهامشي على أفراده، فلهذا المجتمع أيضا صراعاته وقوانينه الخاصة) (هويدا صالح: الهامش الاجتماعي في الأدب، ص211)
2/ الهامش الثّقافي
حاولت هذه الرّواية أن تصوّر واقع المثقّف العربي وأن تعيد تمثيله في شكل متن سرد محكم، محاولة توضيح المساحة التّي يمكن للمثقّف التحرّك فيها في ظلّ الهزائم والاغتراب والاضطهاد وتكميم الأفواه وسلب الحريات والقمع والرّقابة والخوف والعنف، وغيرها من الظّروف القاهرة التّي أدّت إلى تحوّل المثقّف العربي من مثقّف عضوي فاعل في مجتمعه إلى مثّقف مستلَب مسلوب الإرادة
لقد سعت الكاتبة إلى جعل أغلب شخصيات روايتها من المثقفين، بدءا بسامي، مرورا بهالة وأبنائها، وصولا إلى أعضاء المقهى الثّقافي، وذلك لما للمثقّف من دور رئيس، فهو ذلك المنتج والمستوعب والنّاشر للقيم داخل مجتمعه وبهذا يكون دوره شبيها بدور الأنبياء والأئمة، يقول (علي شريعتي) في كتابه “مسؤولية المثقّف”: (إنّ مسؤولية المثقّف في زمانه هي القيام بالنبوّة في مجتمعه حين لا يكون نبي، ونقل الرّسالة إلى الجماهير ومواصلة النّداء، نداء الوعي والخلاص والإنقاذ في آذان الجماهير الصماء التّي أصيبت بالوقر، وبيان الاتّجاه والسّبب، وقيادة الحركة في المجتمع المتوقّف، وإضرام نيران جديدة في مجتمعه الرّاكد) (علي شريعتي: مسؤولية المثقّف، ص126)
توقّفت الرّواية مطوّلا وخاصة في الأجزاء الأخيرة عند أزمة المبدع والمثقّف في مصر وغيرها من البلاد العربية، فالمبدع لا يتوقّف عن مواجهة المتاعب منذ البدء بكتابة عمله الإبداعي إلى أن ينشره، لخّصت الكاتبة معاناته على لسان (أحمد) حينما قال لسامي: (هذا هو الواقع، اقبله أو ارفضه، أنت حرّ) (نهى عاصم: يناديها روح، ص56)
ضف إلى ذلك أزمة أخرى تعاني منها دولنا العربية وهي “هجرة الأدمغة”؛ ما الذّي يدفع بأدمغتنا إلى الهجرة؟ أليست الظّروف الصّعبة التّي يواجهونها في بلدانهم؟ كيف السّبيل إلى إقناعهم بالبقاء؟ وهل هناك فعلا ما يستحقّ البقاء؟
لابدّ إذن من خلخلة ورجّة حقيقية تعيد الأمور إلى نصابها
جعلت (هالة) عنوان أوّل ندوة لها في مقهاها الثّقافي: “مثقّفون داخل الصّندوق”، عنوان ملغز وموح في الآن ذاته، يكشف عن ذكاء كاتبة الرّواية، والهدف الذّي ترمي إليه
لماذا المثقّفون داخل الصّندوق وليس خارجه، أليست دلالة واضحة على التّقوقع وكبح الحريات ولجم الأفكار، فالتّفكير خارج الصّندوق ممنوع بل يصل أحيانا إلى درجة الحرمة، لذلك أكّدت الكاتبة في أكثر من موضع على ضرورة إسهام المثقّف في التّغيير وأن يكون على قدر المسؤولية التّي أوكلت إليه
لذلك جعلت من بطلة روايتها (هالة) مثقّفة خارج الصّندوق، والتّي لم تكف للحظة واحدة عن نشر الوعي والقيم ومساندة القضايا الكبرى والمصيرية، كالقضية الفلسطينية التّي من الخطر نسيانها، وبالتّالي كان فرض عين على كلّ واحد منا أن يُذكّر بها ويحدّث عنها الصّغار قبل الكبار، خشية أن يأتي اليوم الذّي تُمحى فيه هويتنا وتتلاشى وسط تغوّل الحضارة الغربية
تُعدّ مسألة التطرّف من أخطر القضايا على الإطلاق سواء أكان دينيا أم سياسيا أم غيرهما، وهذا ما لم تغفل الكاتبة الحديث عنه أيضا؛ فالتطرّف وما يرتبط به من عنف وترويع، وما يستتبعه من خوف ورعب، أصبح أهمّ سمات العالم المعاصر، ومن الظّواهر التّي شغلت الرّأي العام، وكثر حولها الجدل، لذلك من الواجب الحدّ منه، والسّعي إلى شحن شبابنا بالوعي الكافي للتصدّي لمثل هذه الأفكار الهدّامة، فالشّباب ثروة ثمينة وجب استثمارها والاشتغال عليها، وعدم إهدار طاقتها في العبث وتمضية الوقت على مواقع التّواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية
جعلت الكاتبة شخصية (ندى) ابنة (هالة) مثالا حيا عن الشّباب الذّين يتمّ التّغرير بهم وسحبهم تدريجيا إلى وكر الفتنة، فيذهبون ضحية لعدم وعيهم بحقيقة ما يدور من حولهم وعدم تمييزهم بين الخطأ والصّواب، وهنا لابدّ للأسرة والمؤسّسات التّربوية والمجتمعية أن تسعى إلى نشر الوعي الكافي من أجل التصدّي لمثل هذه الأفكار المنحرفة والمتطرّفة
3/ الهامش السّياسي
استوقفنا جزء من الرواية، في رأينا هو الأقوى على الإطلاق، يحمل بين طياته من الرّمزية والإيحائية والسّخرية والتهكّم الكثير؛ يبدأ من ص173 إلى غاية 177، بضع صفحات لخّصت حال العرب بطريقة دقيقة للغاية، جاءت في شكل نص مسرحي كتبه بطل الرواية (سامي)، مسرحية تروي الطّريقة الهزلية والدرامية التّي تمّ بها إعدام “صدّام حسين”. تخلّل هذا النصَّ سخرية يمكن أن نسمّيها “سخرية سياسية”، هذه الأخيرة التّي لا يمكن فصلها عن عمق التّاريخ الأدبي، كما يمكن اعتبارها سلاحا للتّعبير عن الظّلم وغياب العدالة، وتجاوزا للصّور الفردية الضيّقة، وسردا دقيقا وصادقا للواقع المعيش
لم يكن توظيف الكاتبة لأسلوب السّخرية عبثيا، وإنّما اتّسم نصّها بالكثير من الجدّية، من أجل توجيه ذهن القارئ إلى عيب ما، وتجسيم هذا العيب والمبالغة فيه، والسّعي إلى إبرازه ونقده بوسائل مرنة. حيث ركّزت على العبارة البسيطة مع محاولة التخلّص من الانفعال الظّاهر، فتثير بذلك الضّحك لتسلّط ضوءا أكثر على الأشياء التّي لا تناسب الحياة، والتّي يمكن أن نصفها بأنّها لا تليق بالفرد والمجتمعات
و بالتّالي فالكاتبة تستهدف جمهورا على قدر من الذّكاء والخفّة والمكر، يتلقّف الفكرة بعقله مباشرة، محاولا ردّ خطر متوقَّع أو قائم، وأيضا توحيد الرؤية بين الأفراد في المواقف الصّعبة والمنعطفات الخطيرة نحو أيّ عدوّ خارجي أو داخلي
ختاما نقول إنّ هذه الرّواية وسيلة لمقاومة الدّونية والإبعاد والإقصاء بشتّى أنواعه، والاشتغال على البيئات المهمّشة من قبل المركز، والكشف عن تلك العلاقات المتشابكة ذات البعد الإنساني والاجتماعي والسّياسي والثّقافي. فالكاتبة واعية تماما بسؤال الكتابة، لذلك سخّرت منجزها السّردي من أجل إيصال صوت من لا صوت لهم، ذلك أنّ السّرد له قدرة على رصد التّفاصيل والجزئيات، وعرض المشاهد وتحيينها، وإيصال الرّسالة إلى القارئ
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل