بقلم:أمل صيداوي
اختار الكاتب حسن علي البطران شخصية مارية في عنوان مجموعته القصصية ليدلّ على أنّ حرف العطف (و) يعبّر عن النساء الأخريات اللواتي يشكلن الثلاثة أرباع من الدائرة واللواتي هن النساء المغلوبات على أمرهن والخائنات والجاهلات والسلبيات، ومارية تشكّل الربع الذي بدونه لا تكتمل الدائرة. مارية هي النموذج الأمثل للمرأة التي يطمح الكاتب إلى أن تكون النساء مثلها في المجتمع السعودي هي المرأة الذكية والقوية والطموحة والشجاعة والمتعلمة والإيجابية. وقد لعبت المرأة العربية القديمة دوراً بارزاً في الملاحم والسير الشعبية التي كانت انعكاساً لحياة أغلبية الناس، وكانت الصورة القوية للمرأة العربية تعبيرعن قوة هذه المرأة وإيجابيتها ومشاركتها في الحرب والسياسة وأمور المجتمع الكبرى، وهذه حقيقة لا تخفى على أحد ممن يقرءون تاريخ العرب والمسلمين الأوائل، مما يثبت لنا أن تخلف المرأة العربية لا عَلاقةَ له بالعرب كجنس، ولا عَلاقة له بالإسلام كدين.
ظهرت الأنساق الثقافية إثر تشكل النقد الثقافي، الذي ظهر كردة فعل على أدبية الأدب التي تتناول النص بمعزل عن محيطه، وقد احتلّت حيزاً عريضاً في البحث النقدي. يتناول النقد الثقافي النص بشكل أعمق من مجرد الأدبية، بل يتجاوز ذلك إلى معرفة المعاني الخفية التي يحملها النص، وللنقد الثقافي نسقان رئيسان، هما: النسق المضمر الذي ظهر سابقاً على شكل هجاء يرتبط بالطريقة المناسبة لمواجهة الخصم ودحره، الغاية المرجوة من النقد الثقافي وتحليل الأنساق الخاصة به، هو كشف اللثام عن الكثير من المغازي التي تتضمنها، ولا تعلن عنها بشكل مباشر. إن النقد الثقافي ما هو إلا نشاط أو فعالية تهتم بالأنساق الثقافية بالنص أي أن النص قد يضم معنيين، معنى ظاهر ومعنى آخر باطن، فيقوم التحليل الثقافي على المقابلة بينهما ، فكل عمل أدبي يختلف عن غيره في خصائص اللغة المستخدمة داخل العمل لإبداعي.وهناك النسق العلني الذي هو أكثر سهولة ووضوحا من المضمر الذي يحتاج إلى تفكير وتدبير في النص.

وصف الكاتب الازدواجية في سلوك الناس في قصة بعنوان: “ورقة رقيقة وشفافة” من الحزمة السابعة حيث كذب الموظف على رئيسه بأن لديه ظرفاً طارئاً ويحتاج لأخذ إذن خروج من مكان عمله وعندما يعطيه رئيسه إذناً يسافر الموظف إلى دولة مجاورة كي يستطيع الجلوس في بار في أحد الفنادق بحيث لايراه أحد من أبناء جلدته، تحصل مفاجأة صاعقة إذ يصادف وجود رئيس الموظف في نفس البار ومنافسته له للجلوس على نفس الطاولة.
تنطوي هذه القصة على نسق ثقافي يوضح الموقف المرتبك من الموروث الديني والأخلاقي ومن القيم السائدة في المجتمع العربي والتحولات السلوكية لدى بعض الناس التي تتخذ طابعا مبطناً أو مضمراً كون المجتمع ككل يرفضها ويدينها:
ورقةٌ رقيقةٌ وشفافةٌ
استأذنَ من رئيسه لظرف طارئٍ،
بعد أقل من ساعتين ؛ الموظف ورئيسه يتنافسان على
كرسيٍّ في بارٍ في أحد فنادق الدولة المجاورة .!!
****
تختزل أحداث القصة بعنوان:”لعبة الغميمة”(من الحزمة الثامنة) وصف أمراض العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة مثل الشعور بالاغتراب في الحياة الزوجية، حيث انفرد الرجل بعزلة لمدة أربعة عشر يوماً في منزل يملكه بعيد عن زوجتيه خوفاً من انتقال عدوى بالكحة من أبنائه الصغار من الزوجة الثانية، ثم عاد لمنزله الذي تقطنه الزوجة الأولى والتي صدف أنها كانت تلعب مع أولادهما لعبة الغميمة.
يوضّح الكاتب مدى ارتباط النسق الثقافي بسياق البيئة المنتجة لها والوعي بقضايا مجتمعه، لاسيما قضية وضع المرأة في المجتمع السعودي، وعدم الخوف من رصدها، رصداً عميقاً من الداخل وهذا مايُكسب خطابه الأدبي صدقاً فنياً وحرارة واقعية.اختار الكاتب في هذه القصة شخصية القطة الأولى والقطة الثانية ليدل على تعدد الزوجات في المجتمع السعودي:
لعبةُ الغميمة
تسلّلَ إلى وكره الآخَر خوفاً من كحُة قد يُصاب بها ،
صحا من نومه وعاد إلى وكره الأول ..
بعد ثلاثة أيام ؛ كحةٌ وحمى وصداع حادٌ لصغار
قطته الثانية ، ظلَّ هو في عزلته الانفرادية أربعة
عشر يوما ..!
قطته الأولى تمارس لعبة ) الغميمة ( مع صغارها
الثلاثة ..!!
****
الكتابة فن وهي إحدى الوسائل التي نستطيع من خلالها فهم مجتمعنا وثقافتنا، ومجتمع وثقافات الآخرين، كما في قصة بورصة في الحزمة العاشرة حيث يحكي الكاتب عن مفارقة تحدث في أغلب المجتمعات ألا وهي أن الشخص الذي ترك دراسته أصبح لاعباً مشهوراً وكثرت المعجبات من حوله وكانت أموره المادية على مايرام أما أخاه الذي تابع دراسته الجامعية وتخصصه بالدكتوراه فلم تكن أموره المادية على مايرام، ركل الكرسي كناية عن تركه للدراسة، وتسجيله للأهداف برجله اليسرى كناية عن براعته وإجادته للعب الكرة، وكأن الكرة هي الشهادة التي حصل عليها بدلاً من الشهادة الجامعية. كانت كلمة بورصة التي تحمل عنوان القصة رمزاً للصفقة التي عقدها الشاب مع نفسه وربح من خلالها مستقبله في عالم الكرة:
بورصة
أُجبرَ على الدراسة، ركل الكرسي برجله اليسرى ، بعد ثلاث
سنوات من هجرانه المدرسة ، سجّلَ ثلاثة أهدافٍ برجله
اليسرى في آخِرِ مباراة ..!
غنت البنات باسمهِ ..
ارتفعت قيمة أسهمه في بورصة الكرة ، أخوه الدكتور
الجامعي لم يستطِع شراء سيارة ..!!
****
يُظهر النصف الأول من قصة”وسن” في الحزمة العاشرة توق الفتاة إلى التحرر من واقعها المريراً بخلعها للقلادة حيث يرمز حلبها للبقرة إلى عزمها على اختيار طريق حياتها بنفسها بدون تدخل الأهل أما الطفل فهو يرمز إلى التحوّلات الإيجابية في حياتها الجديدة، يرمز إقلاع الطائرة إلى تحقيق الفتاة لأحلامها في النجاح والتفوّق في حياتها الدراسية وهنا تظهر قدرة الكاتب في النص على تحفيز استفزاز الفكر والتأمل والمناقشة، وأما استثناء الطفل من لبس ثوبي الإحرام فهو الشعور بأن كل شيء يسير على مايرام، تمّ استخدام القصة لاستحضار المشاعر الدينية للفتاة في الطواف حول الكعبة. ورمز شلال الماء يدل على الخير الوفير وأما رمزالجبل والليلة الباردة فيدلان على الصعوبات التي تتوقع الفتاة مواجهتها في حياتها الجديدة، نهاية القصة صادمة لنا وخاصة أن والدة الفتاة تقوم بإيقاظها من حلمها وتمثّل والدة الفتاة رمز الصدمة بين الحلم والواقع:
وسَنْ
نزعت القلادة من عنقها ، حلبت البقرة .. ابتسم الطفل ،
أقلعت الطائرة ، توقفت البوصلة ، سمعَ صوت التلبية ،
استثني الطفل من لبس ثوبيّ الإحرام ، جموعٌ تطوف حول
البيت ..
شلال ماء
جبل مجاور ،
ليلة باردة ..
تصحو ) أسماء ( على صراخ أمها: لقد تأخرت عن الكليّة ..!!
****
أبدع القاص السعودي حسن علي البطران في مجموعته “مارية وربع من الدائرة” في تناول المشاعر والأحاسيس المهترئة التي لا يمكن أن تنتج علاقات صحية أو متوازنة في إطار الأسرة، وفي تناوله لعلاقة الحب بين الرجل والمرأة، وفي عرضه للقضايا الاجتماعية التي توحي بالفساد أخلاقي، كما طرح الكاتب في مجموعته هموم الذات الأنثوية والإنسانية المثقلة بعلاقات اجتماعية مهترئة من خلال محاولات السيطرة على المرأة وتملّكها .