حُكْم الوطن
أَبقى من حُكْم الدولة
“نقطة على الحرف”
الحلقة 1707
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 19 كانون الثاني 2025
سنة 1869 انتهت الأَعمالُ في شَقِّ تُرعة السويس. وشاءَ حاكم مصر يومها الخديوي اسماعيل باشا أَن يخلِّدَ هذا الإِنجازَ التاريخي بعملٍ فنيٍّ كبيرٍ يعادلُ هذا الإِنجاز، فطلبَ إِلى المؤَلف الموسيقي الإِيطالي جيوزيبي فيردي أَن يضعَ عملًا للاحتفاء بالمناسبة، وأَمرَ ببناء دار أُوبرا القاهرة لهذا الاحتفال. هكذا كتَبَ فيردي “أُوبرا عايدة” وكان افتتاحها في دار الأُوبرا ليلةَ عيد الميلاد 1871. من يومها بدأَت عروض “أُوبرا عايدة” تنتشر في العالم، وما زالت حتى اليوم – وفي لغات عدة وعلى المسارح العالمية الكبرى – حاملةً على الصفحة الأُولى من كُتَيِّبها أَنَّ فيردي وضع هذه الأُوبرا بطلب من الخديوي اسماعيل حاكم مصر. واليوم، نادرون جدًا مَن يعرفون ماذا أَنجزَ الخديوي اسماعيل لمصر الدولة على عهده، لكنَّ الملايين في العالم يعرفونه صاحبَ الفضل على مصر الوطن في إِطلاق هذه الأُوبرا العالمية الخالدة.
إِلى أَين من هنا؟ رويتُ هذه الواقعةَ لأَقول إِن الحاكم الذي يريد أَن يخلِّد التاريخُ اسمه، عليه أَن يعملَ لتراث وطنه الإِبداعي، لأَن عملَه للدولة وشُؤُونِها ويومياتِها وسياسيِّيها سيزول مع الزمن كما تزول شؤُونُ الدولة حاكمًا بعد حاكم، ولا يبقى سوى ما يؤَرِّخه التاريخ لحاكمٍ تركَ لوطنه الإِبداعي إِرثًا يبقى على الزمن ولا يمَّحي بين حاكمٍ يَخرج وآخَرَ يخْلُفُه في الحُكْم.
مثالٌ من التاريخ: قبْل 390 سنة (قبل عقد من مرور 400 سنة)، أَعلن رئيس وزراء الملك لويس الثالث عشر الكاردينال ريشليو إِطلاق “الأَكاديميا الفرنسية” سنة 1635. واليوم، نادرون جدًا، حتى في فرنسا، مَن يعرفون ماذا أَنجزَ الكاردينال ريشليو على عهده لدولة فرنسا كرئيس وزراء، لكنَّ الملايين في العالم، ومنذ 390 سنة، يعرفون أَنَّه صاحبُ الفضل على فرنسا الوطن بإِنشاء مؤَسسة “الأَكاديميا الفرنسية” التي ما زالت حتى اليوم منارةَ فرنسا الحضارية في زمنها ولكل زمن آتٍ.
الشاهدُ من هذا الكلام: أَنَّ ما يفعلُه الحاكم لتسيير شؤُون الدولة، على أَهميته البالغة والضرورية، سيزول مع زوال يوميات الدولة في ما بعد. لكنَّ ما يفعلُه الحاكم من أَثر ثقافي أَو حضاري أَو فني لتنصيع صورة الوطن يحمل اسمَه صاحبَ الفضل فيه، ولا يزول مع الزمن.
اليوم، وعندنا في لبنان حاكمٌ قال في خطاب القسَم: “لبنان من عُمْر التاريخ… ونحن شعبٌ يحبُّ الإِبداع متنفَّسًا أَساسيًّا للحياة”، وعندنا رئيسُ حكومةٍ مؤَلفٌ وكاتبٌ متمرِّسٌ في الشأْن الوطني، نفهم أَن يكون الهمُّ الأَساسي حاليًّا تسييرَ شؤُون الدولة راهنًا بيومياتها الآنيَّة الملحَّة، إِنما نأْمل أَيضًا من كلَيهما معًا تناوُلَ الشأْن الثقافي لـحُكْم لبنان الوطن بإِبداعاته ومُبدعيه، لأَنَّ هذا الشأْن يخلِّدهما معًا على الزمان، كما هو مخلِّدٌ حاكمَ مصر الخديوي إسماعيل منذ 156 سنة حتى اليوم، وكما هو مخلِّدٌ ريشليو رئيسَ وزراء ملك فرنسا منذ 390 سنة حتى اليوم.
انطلاقًا من هنا أَقول: وحدَه الشأْنُ الثقافي يجعل من الحاكم مُنَصِّعًا وطنَه على الزمان، ويجعلُ اسمَ الحاكم ملازمًا هذا التنصيع ما حفِظَتْ للأَجيال المقبلة ذاكرةُ الزمان.
هكذا يكون حُكْمُ إِبداع الوطن أَبقى للتاريخ من حُكْم شؤُون الدولة الآنيَّة.