عبد الرزاق دحنون
إلى الغزال الذي بشَّر بزلزال رفيقي غسان كنفاني في ذكرى استشهاده صباح الثامن من تموز/ يوليو 1972
1
على دكَّة مرتفعة وسط الخباء العظيم تربع تيمور لنك حيث فُرشت أرض الخيمة بسجاد عجمي فاخر، انتشرت دنان الخمر في أرجاء الخباء الفسيح، في الخلف جلس أهل الموسيقى مع آلاتهم، عند قدمي السلطان جلست الحاشية والبطانة، كان أدناهم إلى السلطان الشاعر المشهور كرماني. التفت تيمور لنك إلى الشاعر قائلاً
بكم تشتريني يا كرماني لو عرضت للبيع غداً في بازار مدينة سمرقند؟
أجاب الشاعر
بخمسة وعشرين ديناراً يا حضرة السلطان
دهش تيمور لنك، ثم ابتسم قائلاً
حزامي وحده يساوي أكثر من هذه القيمة
أجاب الشاعر
إنما كنت أفكر بحزامك وحده، لأنك أنت نفسك لا تساوي ديناراً واحداً.
الحكاية بهذا التفصيل تحمل دلالات مغيبة بين السطور لأنني أتصور أن السلطان يمارس سلوكاً عنيفاً يصل إلى حد الغضب المستعر، بل يمارس الانتقام والتصفية الدموية الفعلية حين يتجرأ أحدهم على هيبة الدولة وسطوتها ممثلة بحضرة السلطان، فيكفيه في حالة الشاعر كرماني أن ينادي يا جلاد حتى يطير رأس الشاعر في الهواء. والسؤال هنا متى تبدي السلطة تسامحاً مُعلناً مع خطاب انتقادي يصل حد السخرية المُرّة كما في حالة الشاعر؟ وهل المثقف -ممثلاً بالشاعر- استعمل هذا النوع من الخطاب المستتر بالغفلة كي يخرج برأسه سالماً من سيَّاف السلطان؟ أم أن الأمر برمته كان ملحة “مزحة” في مجلس سمر السلطان؟
مهما كان الأمر فنحن لا يمكننا غض الطرف عن دلالة هذه الحادثة التاريخية دون النظر إليها من خلال الدور المنوط بالمثقف. ولا مانع عندي أن يتخذ المثقف في محنة كهذه دور المهرج ويستعمل هذا النوع من الخطاب المستتر بالغفلة والذي يهمس به من وراء ظهر السلطان وهذه الحيلة تعود بنا إلى الحديث النبوي: أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. ولخطورة الحديث نثبت سنده، فقد أخرجه أحمد في المسند وابن عساكر في تاريخ دمشق والنسائي والترمذي في السنن والخطيب في تاريخ بغداد. ورواياته تتفاوت في العبارة وتلتقي في المضمون. والحديث هنا لا يحدد سمت الكلمة ولبوسها. هل هي لينة أم غليظة؟ والمثل يقول: البس لكل عيشة لبوسها، والقرآن يخاطب النبي بآية هي في لفظها ومضمونها من ألطف ما سمع البشر على مر العصور “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”.
المثقف يرسم استراتيجية دفاعية مراوغة ناعمة منسوجة من خيوط حرير لا ينقطع، وعلى الرغم من ملمسها الناعم الرقيق تأتي أُكلها، وهذا هو المقصود من كلمة حق في الحديث. فهل أمعن الشاعر في تجريد السلطان من هيبته والتورط في فضاءاته الموحشة وهو ما يجعل الحضور داخلها مجازفة خطيرة قد يترتب عليها في كثير من الأحيان نتائج وخيمة تصل حد التصفية الفعلية مادياً ومعنوياً؟ على حد تعبير الدكتورة هالة أحمد فؤاد، أم أن الشاعر هنا يتمثل قول أفلاطون الذي نقله أبو حيان التوحيدي في كتابه الخطير “مثالب الوزيرين”: من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته وبطشه، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر. على أي حال، مهما كانت دلالة هذه الحكاية فإنها تطرح علاقة ملتبسة مليئة بالتناقض ما بين المثقف والسلطان والذي لا يكف -أي المثقف- عن مراوغة السلطة بشتى الوسائل مستجدياً عطفها ورضاها مضمراً احتقارها، جهلها وحماقتها.
2
أُعيد هنا بتصرف صياغة الحكاية التي جاءت في كتاب “داغستان بلدي” للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف. وقد ترجم الكتاب إلى العربية الأديب السوري عبد المعين الملوحي ونشره في مجلة “الآداب الأجنبية” تموز/يوليو عام 1975
عاش في أحد البلاد المتاخمة لحدود الصحراء شعراء شعبيون يجوبون القرى الطينية وينشدون أغانيهم على الربابة. وكان سلطان تلك البلاد -إذا لم تشغله أعماله أو نساؤه- يُحب أن يستمع إلى أغاني هؤلاء الشعراء، وفي يوم من الأيام سمع أغنية تتحدث عن ظلم السلطان واستبداده وقسوته، فأمر بالبحث عن الشاعر الذي يُنشد هذه الأغنية التي تحضّ على عصيان السلطان، وأن يُؤتى به إلى القصر، ولم يستطع أحد العثور على الشاعر، وعندئذ أمر السلطان وزراءه وجنوده بالقبض على الشعراء في المملكة جميعهم؛ هجم جنود السلطان مثل كلاب الصيد على القرى، والواحات، والشعاب الموحشة، وقبضوا على كل من كتب شعراً، وألقوا بهم في سجون القصر السلطاني، وفي صباح اليوم التالي جاء السلطان ليرى الشعراء المساجين: حسناً. على كل واحد منكم أن يُغني أغنية واحدة، وبدأ الشعراء يغنون واحد بعد واحد، يمجدون السلطان، وفكره النير، وقلبه الطيب، ونساءه الجميلات، وقوته وعظمته ومجده.. وقالوا في أغانيهم إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا السلطان في عظمته وعدله، ويجب أن يسود سلطانه الصحراء بجهاتها الأربع
أطلق الملك سراح من غناه من الشعراء، ولم يبقَ في السجن غير ثلاثة شعراء لم يستمع إلى أغانيهم، تركوهم في السجن. وظن الناس أن السلطان نسيهم، ومع ذلك عاد السلطان بعد ثلاثة أشهر ليرى الشعراء المساجين: حسناً. على كل واحد أن يُغني أغنية واحدة
جعل شاعر منهم يغني ويُمجد الملك وفكره النير وقلبه الطيب ونساءه الجميلات وقوته وعظمته ومجده، وقال في أغنيته إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا السلطان في عظمته وعدله، وأطلق السلطان سراح الشاعر. وبقي شاعران رفضا الغناء؛ فأمر الملك بنقلهما إلى محرقة أُعدت في الساحة العامة، وقال السلطان: سنلقيكم في النار، هذا إنذار نهائي: غنياني إحدى أغانيكما، ولم يستطع واحد منهم أن يتماسك، وجعل يغني ويُمجد السلطان، وأفرجوا عنه
لم يبقَ في الميدان إلا الشاعر “حديدان” وهو الأخير الذي أبى في عناد أن يُغني، وأمر السلطان: اربطوه بالجذع وأشعلوا النار، وعندئذ أنشد الشاعر، وهو مربوط بالجذع، أغنيته الشهيرة عن قسوة السلطان واستبداده وظلمه، تلك الأغنية التي كانت سبباً في كل ما حدث؛ فصرخ السلطان في الجنود: فكوا حباله.. أخرجوه من النار.. أنا لا أريد أن أفقد الشاعر الوحيد الحقيقي في مملكتي