كتبت هلا ياسين
” الشرنقة ” رواية عرفت مؤلفتها أجمل الأنغام العاطفية، فلامست بأحداثها مشاعر القارئ كيفما قلب وجهه بين صفحاتها ، كما حملته متأرجحاً بين أزمنة وأمكنة عديدة : ما بين الضيعة ( القرية ) وبيروت ، فعاشت معها براءة الطفولة في كنف العائلة والمراهقة على مقاعد الدراسة ، والوله في عزّ الشباب .
كما جسّدت رونق العلاقات الإنسانية والإجتماعية المترابطة في ضيعة تتنشق فيها عذوبة الحياة القروية ، ويكاد أبناؤها يتعايشون كالجسد الواحد الذي إذا ما اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى .
هي رواية تجلى السرد منساباً بين أحضان وريقاتها برونق وسلاسة وبدا فيها حضور الراوية ما يجعلنا نتماهى معها في روايتها ، ومن الجمالية الأدبية ما يستحث نهْم القارئ ويشوقه لاكتشاف الأحداث ، ومن جمالية الزمان ما يجعله يتمنى لو يسترجع ماضيه بعبقه الدافئ الرغيد ، ويستشرف مستقبل الشخصيات ليطمئن قلبه إلى ما آلت إليه .
إنّ غِنى هذه الرواية واكتظاظها بعناصر الزمن والشخصيات والتبئير وغيرها ، يجعلنا نغوص في أعماقها ونحلّلها مستفيدين من نظريات كبار الباحثين والنقاد وعلماء النفس والفلسفة …
وقبل البدء بعملية التحليل والدراسة لا بدّ أن نُسلّط الضوء على صاحبة هذه الرواية وهي الكاتبة والشاعرة دلال موسى التي ظهرت لنا في الرواية باسم “صبا” ويا له من دلالات جميلة…صاحبة القلم المثقف والفكر البنّاء والتجربة العميقة في ميدان العلوم الأدبية رغم أنها كانت تفضّل المواد العلمية كما أخبرتنا في الرواية ” تلميذة في مدارس الحياة لا أملك رفيقاً غير الورق، أعرف أنني ما أردت يوماً أن أكون كاتبة روائية ، لأنني كنت أميل للمجالات العلمية والبيولوجية ، لكن ظروفي لم تساعدني على القيام بالأشياء التي أحب .
الدلالة السيميائية لعنوان ” الشرنقة” يعتبر تجلّياً للصبر والتحمل في مواجهة التحولات الحتمية للحياة ، ويُجسّد القدرة على البقاء في أحلك الأوقات لتحقيق ميلاد جديد . فالشرنقة هي شخص بصري للغاية ونظرية تأثير الشرنقة هي نظرية فلسفية فيزيائية تعني أن أي حدث يحدث في الكون يكون ناتجاً عن مجموعة أحداث صغيرة لم يلاحظها أحد . فالشرنقة في الإصطلاح هي غلاف واقٍ من الحرير تنسجه بعض يرقات الحشرات مثل دودة القزّ لحماية نفسها أثناء تحوّلها من طور اليرقة إلى الحشرة الكاملة كالفراشة ، وتشير إلى استعارة تعبّر عن الشعور بالحماية .
” شرنقة ” : إذا كنت تعيش في شرنقة ، فأنت في بيئة تشعر فيها بالحماية والأمان ، وأحياناً بالعزلة عن الحياة اليومية …
“فالشرنقة” احتضان التحوّل والتغيير ، ملكة التحوّل والحرية والبعث ، التحولات الإيجابية والأمل خلال الأوقات المظلمة ، والبدايات الجديدة .
وإن تناولت البحث والتحليل في المضمون فستغرق في بحر التنوع الأسلوبي والإيجاز والإستعارة والكناية والتشبيه : أريد أن أتناول طبقاً من البكاء والغضب الشديد بعد ذلك ووجبة من خيبات الأمل وانكسار القلب . قال لي : يا سيدتي ثمن هذه الرغبات باهظ جداً . أجبته : أعرف … الثمن كان ضحكتي وحياتي .
أما تساؤلاتها الفلسفية : صدقاً لا أعرف السبب الذي خُلقنا من أجله ، فمنهم من يقول بأننا خُلقنا لنعبد الله ، ومنهم لا يعترف بوجوده أصلاً. -لماذا نحن على قيد الحياة ؟ لماذا ينجبونك للحياة ؟ أو لماذا يريدون رمْيك في حياة لا أمان فيها ؟
تكمل وتوضح الكاتبة العيش في مجتمع شرقي : ببساطة أنت لن تعيش يوماً كما تريد أنت لأنك أنت فعلياً لا تملك الحق بأن تقرر كيف ستكون حياتك بعد أن تُخلق لأنك ببساطة مجرد مخلوق مستعبد مكبّل بقوانين شبه مفقودة ستشعر وكأنك مجرد وسيلة أو أداة أو دمية مسيّرة . عندها ستكون أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما أن تثور لتحصل على حقوقك أو ستعتاد على الأمر .
إنه عالم فاسد ، وإنهم مجموعة من كل شيء سام وقاتل ، قيّدوا النساء بمبادئ الشرف وعادات الشرق المقيت هذا ، ولكنهم نسيوا تماماً بأن هذه اللعنة ستزول يوماً .
تجوب بنا الكاتبة إلى قسم آخر يتضمن علم النفس لتبهر آذاننا بقولها : الذي لم أستطع فهمه للآن هو الإنسان وتركيبته المعقدة ، فهو ومع أنه رُزق بنعمة النسيان لا يستطيع أن ينسى قلقه الناتج من مخاوف في نفسه الباطنية!!! ربما لأن الأشياء لا تضيع في الحياة النفسية ، ولا تختفي، وكل ما حصل يبقى محفوظاً ومختزناً بشكل معين لكي يعود ويظهر في ملابسات محددة ومناسبة. هذه إشارة من فرويد الذي يرى بأن هناك إمكانية للتعايش بين الماضي والحاضر بشكل مكثف ورمزي بالغ الدلالة .
وأحداث كثيرة تحدثنا عنها بتفاصيلها المشوّقة عن حبها ل علاء فتصف لنا الحب: ” الحب !!! هو قوة تشدك إليها كالسحر تماماً ، وتأخذ روحك وتغيّرك من الداخل بشكل كلي ، تُعَريك تماماً من كل شيء لتصبح ضعيفاً أمامها. هو ذاك الإحساس الذي ضاقت عليه حواسنا واتسعت له آفاق الجنون . هو تعلق الشعور اللاواعي بأشياء معينة بدايته انجذاب ثم ارتعاش ثم اندماج بكينونة المحبوب .
علاء جعلني أعشق كل فصول السنة .
صِبا تعود لمخاوفها من جديد: “أنا لا أريد أن تكون ابنتي ضحية لهذا الشرق كما كنت أنا ، سأحررها من كل شيء … من كل شيء .
الخاتمة : قراءتي لرواية “الشرنقة” والغوص في تفاصيلها والتمعن في دلالاتها ، نرى أنها قد أظهرت – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة – شفافية الروائية وأناقة تصوراتها بدءاً من العنوان الذي يظهر رقة تعكس براءة الفتاة الريفية ، وأناقة المرأة المثقفة ، ومن ثم يطالعنا المضمون وما هو إلا باقة من ذكريات تتنقل بين جنباتها كفراشة يكسوها الحياء ، ويضيف العشق إلى جمالها شاعرية تنطلق بكل كلماتها ، فالكاتبة طبيعية إلى حدّ المثالية تحمل على عاتقها هموم الفتيات في مجتمع شرقي ، فصداقتها مقدسة ، وحبّها مقدس ، يضيء سراج أملها ويدفعها للمسير ويمنحها القوة .
لقد صورت هذه الرواية ألم الفقد ومرارته ، ولوعة الإنتظار، ولذة الحب ، وميثاق الصداقة ، وعذوبة الحياة الطبيعية ، والسلاح الداخلي…
لقد صنعت شرنقتها بمهارة فكانت رمزاً لقدرة الروح على اكتشاف هويتها الحقيقية وتحقيق إمكانياتها ، فلقد شقّت شرنقتها بهدوء وإبهار ورغبتها البريئة في إحاطة حبيبها بشرنقة من الحب ، منحتها أجنحة من الكلمات فكانت رُسُلا من عالم آخر ، ومبشراً بالخير والفرح…
دمتِ حرّة … وقوية … ومُحلّقة …
