رأينا في المقال السابق مدى أهمية الفلكلور وأنه بحق يعبر عن التاريخ الشعبي للناس، وعلى هذا لا نستطيع أن نعيب على المؤرخ الذي يعتمد على المأثورات الشفاهية، فهو وبالاستعانة بمناهج التاريخ والأنثروبولوجيا والفلكلور، قادر على تحقيق الاستفادة المرجوة من هذه المصادر مهما وصفها البعض بالأسطورة أو التحريف أو عدم “الرسمية”.
ولا يأتي كلامنا هنا لمجرد الدفاع عن أهمية الفلكلور بالنسبة للمؤرخ، ولكتابة تاريخ المجتمعات، فقد خفتت حدة الهجوم على هذا الاتجاه من جانب المدرسة التاريخية التقليدية، واعتمدت الكثير من المعاهد العلمية في الغرب وحتى في أفريقيا هذا الاتجاه. وأصبحت الحكايات عن الأبطال والمواويل القصصية والسير الشعبية والأمثال والحكم والرقصات وما يصحبها من غناء وموسيقى والرسوم الساذجة والصناعات البسيطة تصور كلها حياة المجتمع من نواحٍ كثيرة.
ولا يمكن لباحث في تاريخ المجتمع أن يتجاهل هذا التراث الذي يمكن أن ينير له الطريق لكي يستطيع فهم عقلية المجتمع وعادات أفراده وحياتهم عامةً، مما يتيح له أن يدرس تاريخهم بشكلٍ أسهل وأكثر يسرًا، ذلك أن الإنسان منذ فجر البشرية يقص على أبنائه وأحفاده قصص أسلافه ممتزجة بأساطيره ومعتقداته.
يؤيد تراثنا العربي هذا الشأن؛ إذ كان الطابع الشفاهي هو السمة الغالبة عليه، وظل هذا الطابع الشفاهي مسيطرًا على الثقافة العربية لفتراتٍ طويلة، حتى بدأ عصر التدوين بعد الإسلام بفترةٍ ليست بالقصيرة.
ويؤيد تراثنا العربي هذا الشأن؛ إذ كان الطابع الشفاهي هو السمة الغالبة عليه، وظل هذا الطابع الشفاهي مسيطرًا على الثقافة العربية لفتراتٍ طويلة، حتى بدأ عصر التدوين بعد الإسلام بفترةٍ ليست بالقصيرة. ويرجع البعض ذلك إلى انتشار الأمية بين العرب حتى أن المؤرخ البلاذري يذكر أن الإسلام قد دخل قريش وليس بها سوى سبعة عشر رجلًا يكتب فقط.
ومن هنا وضع علماء الحديث، لا سيما منذ القرن الثاني للهجرة، شروطًا قاسية لإسناد الحديث النبوي وتوثيقه، وأدى ذلك إلى نقد سلسلة السند جرحًا وتعديلًا. وقد انعكس أسلوبهم هذا على المؤرخين أيضًا، ولكن ليس بالدرجة نفسها من التقصي أو التحقق أو الدقة وخاصةً عندما كان الأمر يتعلق بالقصص.
أمثلة تطبيقية
وإذا أردنا أن نتبين مدى أهمية كل ذلك في فهم تاريخنا وواقعنا المعاصر سنحاول أن نـضرب بعض الأمثلة التطبيقية على ذلك. فحتى الآن وفي بعض قرى محافظة المنيا يسمي الفلاحون بعض البدو أو الفلاحين القادرين بـ”لزيمي” أي يا ملتزمي. ويرجع ذلك إلى نظام الالتزام الذي طُبِّق في الريف المصري، والذي كان يُضيف للملتزم بعض السلطات المادية والمعنوية على الفلاح المصري.
وكذلك يسمي فقراء الأقباط أثرياء المسلمين “يا بدوي” أي يا سيدي العربي، كنايةً عن الدور التاريخي الذي لعبته القبائل العربية في الصعيد وسيادتها على هذه المنطقة، فضلًا عن عمل الكثير من الأقباط في السلك الإداري التابع لمشايخ هذه القبائل، وبالتالي منح مشايخ القبائل حمايتهم على الأقباط التابعين لهم.
كما نجد في الأمثال الشعبية العديد من الشواهد التاريخية حول الأوضاع الطبقية الصارمة التي عانى منها الفلاح، وعدم إمكانية الحراك الاجتماعي، أي انتقال الفرد إلى طبقةٍ أعلى، فضلًا عن سيادة طبقة الحكام؛ إذ يقول المثل الشعبي:
“إن طلع من الخشب ماشة يطلع من الفلاح باشا”
كما تعالج الأمثال الشعبية مسألة سيادة العنصر الأجنبي على الحكم -السياسة والاقتصاد- في مصر لفتراتٍ طويلة، وتواري العنصر المصري عن لعب أدوار مهمة في هذا الشأن؛ إذ يقول المثل الشعبي:
“ديار مصر خيرها لغيرها”
ويسخر المصري بطبيعته من نظام الإدارة المحلية التي يتعسف رجالها في التعامل مع الحاجات اليومية البسيطة للإنسان المصري؛ حيث يصف التعامل مع الجند المماليك “الغُز” بأنه في غاية الخطورة، حتى ولو عمل الإنسان معهم:
“أخرة خدمة الغز علقة”
كما يسخر من القاضي المرتشي وأثر ذلك في غياب العدالة قائلاً:
“القاضي إن مد إيده كترت شهود الزور”
كما يوجه سهام النقد لوظيفة المحتسب، وهو الموكول إليه مهمة مراقبة الأسواق والأسعار والمكاييل والموازيين؛ إذ يشير إلى عدم كفاءة بعضهم أحيانًا وتعسفهم في هذا الشأن، لا سيما فيما يتعلق بدقة الموازين والمكاييل والمصادرات التي تحدث من جراء ذلك:
“المحتسب الغشيم زايد إرمي ناقص إرمي”
رؤية مغايرة للتاريخ الرسمي
كما تقدم لنا الأغاني الشعبية رؤية أخرى مغايرة للتاريخ الرسمي الذي تقدمه معظم الكتابات التاريخية؛ إذ تمجد معظم الدراسات التاريخية في نظام التجنيد الذي أدخله محمد عليّ إلى مصر، وترى فيه بداية تكوين “الجيش الوطني” وأيضًا تأسيس “مصر الحديثة” و”نمو الوعي القومي”، وكان التجنيد يتم بفرض عدد معين من الأنفار على كل قرية ويُترك لشيخ البلد جمع هؤلاء، وكان هذا الشيخ يختار المجندين من عامة الفلاحين الذين لا يستطيعون دفع عدوانه.
وتحكي الأغنية الشعبية أسفار أم المجند وجريها وراءه وضعف سلطانها وتجردها من العصبية، فهي أم فقيرة تسأل ابنها الشاب أن يُخفي علامات فتوته ورجولته المبكرة عن شيخ البلد فربما ينساه من التجنيد، وهي تنقد نظام التجنيد بشكلِ لا نحسب شيئًا آخر في مثل عمقه وصدقه من المصادر التاريخية الرسمية، إنها تعبر عن صوت الشعوب الرافضة للحروب، هذه الحروب التي تصبح الشعوب فيها وقودًا لأحلام وأطماع الحاكم؛ إذ تُبدي الأم الحسرة على أنها وابنها لم يهربا إلى الواحات حتى ينقضي “الفرز” الذي يختار فيه المجندون:
يا ريت هجينا ورحنا الواح
حيث انقضى شهر الفرز وراح
كما تُلقي الأم بحكمة المقهورين وأحلام الفلاحين في بقائهم في زراعة الأرض، وكراهية هذا الزيّ “الميري” الذي يلبسه المجندون، والشوق إلى العودة لزيّ الفلاحين:
يا باشا لبسو خلجو (أي ثيابه كفلاح)
دي العمة لبس أبوه وأهله
لبس العساكر إجلعه وإرميه
وإلبس عزالك نعرفك منيه
كما تسجل الأم دعوة لوقف الحرب والسلام، تصلح لأن تكون دعوة لكل أمهات العالم الذين فقدوا أبناءهم في حروبٍ لا طائل من ورائها:
على مين يجول ليِّ درب اللطام سدوه
كفوا البنادج والبارود كبوه
على مين يجول ليِّ درب اللطام انسد
كفوا البنادج والبارود انكب
وهكذا نرى ما يمكن أن يقدمه الفلكلور في رسم صورة أخرى للتاريخ الحي -التاريخ الشعبي- ربما أكثر حيوية ومصداقية لما يمكن أن يقدمه “التاريخ الرسمي”.
د. محمد عفيفي:
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.