سدل العام المنصرم الستار على نفسه، ولكن بقيت منه ذكرى لثلاث محطات مئوية في تاريخنا الثقافي والأدبي: مئوية كتاب “النبيّ” لجبران خليل جبران، ومئوية كتاب “الغربال” لميخائيل نعيمة، ومئوية ميلاد عاصي الرحباني.
أقيمت مناسبات أحييت فيها كلّ ذكرى على حدة. وكنت حاولت اكتشاف أسرار في حياة صاحب “النبي”، تفسِّر شعبيته العالمية. وقعت على ثلاثة منها. سألّخِصها في هذه المقالة.
أن يظلَّ أديبٌ، تسعين عامًا ونيفًا بعد وفاته، يملأ المشهدَ الأدبيَّ بأعماله وأفكاره، ويكونُ موضعَ دراسات وأطاريحَ بلغت المئات، وأن يُترجمَ إلى عشرات اللغات، وأن تحتلَّ مقاطعُ من “نبيِّه”، مكان آيات الإنجيل، في رتبة الزَّواج الكنسيِّ، وأن يصبح مثالًا للأديب العالمي، وأن يتحوَّل مَدفِنُه في بشري ومُتحفُه، محجًّا ومزارًا… فلا شك أنّه ليس أيَّما كان، إنما هو الأديبُ الغيرُ غير.
حين ترك جبران الطفل بشرّي، مع أمه وإخوته، تقلَّد، بوعي ولا وعي، ثلاثَ أيقونات: أيقونة البخور متصاعدًا من وادي قنوبين، وأيقونة التراب المتمثلة بأغنية وقصيدة زجلية، وأيقونة المغامرة. كأنّي بالأيقونات الثلاث هذه لم تكن سوى التماعٍ ظاهر لعبقريةٍ كامنة في نفسِ طفلٍ كان يقرأُ كتب الجلول، قبل أن يفتح كتابًا، ودفاترَ الثَّلج قبل أن يخُطَّ حرفًا على ورقة بيضاء، وكان يسرح مع الرِّعيان، قبل أن نسرحَ في آماد خياله الوسيع.
لا بد كان ذكيًّا بالفطرة، لمَّاعًا كسيف أُخرج من غمد قبل أن يُسايف، نبيهًا كديك تُعيَّر ساعةُ شروق الشَّمس على صياحه، ويُسرِّبُ قِنديل ليل إلى فراشه، على التواء فتيله بعد طول تعب.
هذه الشَّخصية الفريدة، لطفلٍ أظنه كان خجولًا، منطويًا على تضادٍّ عاشه في منزله البشراوي، بين أبٍ ربما متسلط وقاسٍ ومبذر، وأمٍّ قوية الشخصية، مغامِرة لكنها أمٌّ، هي كلُّ الحنان والمسؤولية، وقد جعل جبران وجهها، ذات عبارة، وجه أمته.
من صقيع بشري إلى صقيع بوسطن. لم تشأه أمُّه وإخوتَه، هامشيين في مجتمع يبتلع ويصهر. أرادتهم أن يكونوا ليبقَوْا، ويتحدَّوْا. جذبت عبقريَّةُ الطِّفل المفعمةُ بالبَخور وأصالةُ التُّراب وصدقُه، وروحانيَّةُ الوادي المقدَّس جارِ الأرز وعبقُه، مَن تولَّى تعليمَ جبران. أحسَّ ذاك المعلِّم أنَّه أمام شخصيَّة قد تجيب عن سؤال ضائع، في ذهن كلِّ من قصد العالم الجديد، نهايةَ القرن التاسع عشر.
ألوف هاجروا إلى ذاك العالم الجديد، بحثًا عن حلم، يُزيل عن كواهلهم نير ظلم أو فقر أو عَوز أو اضطهاد. لكنَّه كان عالمًا يحبو، عالمًا ضائعًا بين موروثات في طبيعة الإنسان متمثلة بالقتل أو السرقة أو الانتقام لا يقمعُها “شريف” مهما كان عادلًا وشريفًا، وآفاقٍ منفتحة على الحرِّيَّة والحقِّ والتَّمرُّد والجرأة لم تحدِّدها بعدُ مواثيقُ وشرعٌ وإعلانات.
وجد ذاك المعلِّم، أو المعلِّمون اللَّاحقون، في الطِّفل جبران، دون غيره من أترابه، أساسًا لمادة تسويقيَّة، تنهض بمجتمع ناشئ نحو قيم جديدة، تلتقي فيها روحانيَّة الشَّرق روحَ المغامرة اللا محدودة. لكنَّ جبران لم يكن إلَّا مادَّة خامًا، لا بد من صقلها. فعاد إلى بيروت، يُزيل التُّرابَ عن ألماسةٍ استُخرجت من منجم، ليعود، بعد محطَّات في أوروبا، معزِّزًا روحانيَّته الشَّرقيَّة بالعلم على كبار، وبالمعرفة مستقاةً من الينابيع، وبالشَّخصيَّة الممعنة في النُّضج وشبه الاكتمال.
أظنُّ هذا هو سرُّ جبران الكبير، وأساسُ تميزه، وعنوان فرادته، وقد أبقته جميعًا، خصوصًا من خلال كتاب “النبي”، حيًّا وهو تحت التراب، أكثر منه فوقه.
خلعنا عنه أيقونة البخور، ولكن ماذا عن أيقونة التراب والأصالة؟
صحيح أنّ المثل الشَّائع في جبالنا، حيث ترعرعَ الزَّجل ونما وشبَّ وانتشر وتميَّز، يقول إن تحت كلِّ حبَّة ترابٍ شاعرًا، لكنَّ شاعرية جبران الزَّجليَّة، وإن حمل منها عفويَّتَها، حين هاجر، حِفْظًا لقرَّاديَّات أو أبيات معنَّى وأبو الزلف وموليا، وربما محاولاتِ تأليفٍ حين استقر في بوسطن، كضرب من ضروب الحنين والشوق، لم تظهر (تلك الشَّاعريَّة)، إلَّا حين تمكن من اللُّغة وآدابها، وازداد معرفة لاحقًا بصنوف الأدب، وعاشر كبار أدباء المهجر وأدباء العالم.
وهذا ما يفسر ظهور أبيات زجل وموليَّا، قبل أربع سنوات على وفاته، نُشرت في مجلة كان يُصدرها نعُّوم مكرزل في نيويورك، حملت اسم “العالم السوري”، ألَّفها جبران، وترجم بعضًا منها أو كلَّها إلى الإنكليزيَّة. حتَّى إنَّ بعض زجليَّاتِه نُشرت في كتاب وضعته لجنة الاستعلامات الأميركيَّة باللُّغة الإنكليزيَّة عنوانه “الأغاني العامِّيَّة عند سائر الشُّعوب”، وضعه جبران أيضًا وترجم قصائده العامِّيَّة إلى الإنكليزيَّة.
ويبدو واضحًا من الأبيات التي سأستشهد بها، بعد قليل، طغيانُ باب “أبو الزِّلف” على مجمل زجليَّات جبران، ووزن هذا الباب هو نفسُه تفعيلاتُ البحر البسيط، وقد قُسم كلُّ شطر، شطرين، على غرار بعض قصائد ابن زيدون، المندرجة تحت باب الموشَّحات. أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الأبيات يتضمَّن كلمات من اللُّغة العربية الفصحى، أو حتَّى صيغًا وعبارات فصيحة. وليس في ذلك عيبًا، إذ إن سيادة الزَّجل كطقس منبري، كانت ما زالت في طور التبلور، مع جوقة شحرور الوادي في مطلع عشرينات القرن العشرين.
يقول جبران:
وِطْلِعْت راس الجبلْ
فتِّشْ على طيري
ولْقيت طيري يا إمِّي
في قَفصْ غيري
خِشْخَشْت لو بالدَّهب
قِلْتلو يا طيري
قلّي زمانَكْ مضى
فتِّش على غيري.
قالو حبيبَك سخَنْ
وِالغَدّ راح يموتْ
وِنْزِلت سوق الخشبْ
وَصّي على تابوت
وْسِكَّرَه من دهبْ
ومفتاحها ياقوتْ
واستَعْجَبِتْ المملكه
شخصين في تابوتْ.
مَنْ هُو الَّذي ما عشقْ
مَنْ هو الَّذي ما حبّ
مَن هو الَّذي ما مشي
في وسْط قَلْبو الرَّبّ
شوفو رمَّان الْبَساتينْ
مِتْلان حَبّ
حَتّى نجوم السَّما
مِنْ بَعْضها بتنحبّ.
ومن أبيات جبران التي صدح بها صوت فيروز، على موسيقى الأخوين رحباني، هذه الأربعة:
واطْلعْ لراس الجبلْ
واشرِفْ على الوادي
وبْقول يا مرحَبا
نسَّم هوا بْلادي
يا الله يطوف النَّهِر
ويغرِّق الوادي
لاعْمِلْ زنودي جِسْر
وبقَطِّعِك لِيّا.
تبقى أيقونة المغامرة المنطوية على انكسار.
حين جذَّف بأحلامه المتكسِّرة إلى شاطئ الحلم الجديد، كان جبران العبقريُّ فطرة، العابقُ ببخور الشرق، يمنّي النفس ربما بأن يعليَ اسمه في العالم، ليكون هذا الاسم زورقه وشراعه وبحره، في طريق عودته إلى لبنان.
لكنَّ جبران الذي هاجر متقلِّدًا أيقوناته الثلاث تلك، لم يكن يدري أن ثمة قيدًا كبَّل يديه وسيفًا أُصلِت على عنقه. إذ كما ورث عن والده اسم العيلة وبعض الصفات وربما بعض الرِّزق، ورث عنه أيضًا ثماني دعاوى قضائيَّة رُفعت عليه، لعجزه عن سداد ديون مترتبة عليه.
وقد ظلَّ هذا الأمر خافيًا حتّى أمس قريب. حين اكتشف أحد هواة جمع الكتب والمخطوطات، مصادفة، مجلدين للجريدة الرسمية التي كانت تصدرها السلطنة العثمانية، وتعنى بأمور جبل لبنان، ومن ضمنه بشري، واسمها “لبنان”، على عربة بائع جوال في سوق الأحد.
وحين أخذ صاحبنا يفلفش المجلدين، وقع على تلك الدعاوى المرفوعة على والد جبران، وقد انتقلت مسؤولية سداد الديون، بعد وفاة الأب، إلى جبران وشقيقته مريانا.
كان مجموع مبلغ الديون المتوجبة على خليل جبران، 38 ألف قرش. وقد طُرح ما يملكه من أراض في المزاد العلني، فلم يحصِّل أكثر من 20 ألف قرش، وبقي مبلغ 18 ألف قرش، دينًا ينبغي لجبران وشقيقته سدادُه، وإلا أوقف في المرفأ، لو عاد إلى لبنان، وأودع السجن.
كان جبران يعي ضغط القيد على معصميه، وحدَّة السيف المصلتِ على عنقه. ولكن ما العمل، وقد غادرت شريكته (مريانا) في الجريمة التي لم يرتكبها، الحياة، وأصبح هو اسم علم مشهورًا.
لذا أوصى، قبل وفاته، بأن يعود رفاته ويدفن في مسقطه، بشري، ووقَف مردود مؤلفاته، لقريته، ليفي دينًا لم يسدده وهو حي.
هذه وردة على قبر جبران، وقد ذرفتُ دمعة، وعلت وجهي ابتسامة.