بقلم الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي/ العراق

في مدينة لا تُقاس بجغرافيتها، بل تُستَشفّ من أنين الأرواح، ومن صمت الأزقة وحنين الجدران، يكتب الشاعر فايز أحمد الشمس ديوانه “مدينة الأرواح”، كمن ينقش بأصابعه على جدار الريح، أو كمن يكتب ذكرياته الأخيرة على جبين الوقت. في هذه المدينة الشعرية، لا نقرأ القصائد فحسب، بل نُصغي إلى الأرواح الهائمة، إلى الحزن الذي يتكئ على عكاز من الضوء، وإلى الفرح الخافت كدمعة تلمع في عتمة الذكرى.
الشاعر لم يقدّم لنا عالماً متخيّلاً، بل اعاد ترتيب العالم من الداخل، من عمق الشعور ومواضع الانكسار. فكل بيتٍ شعريّ في هذا الديوان يبدو كنافذةٍ على قلبٍ ما، على وجعٍ ما، أو على دهشةٍ ما زالت تقاوم الزوال. لذا نلمح حضورًا كثيفًا للذات في هذا النص، لكنها ليست ذاتًا منغلقة، بل ذاتٌ تسعى للانصهار بالآخر، بالوجود، وبالزمن، كأنها تسعى لخلق لغة جديدة، ليست اللغة المتداولة بين البشر، بل اللغة التي تتخاطب بها الأرواح حين يخذلها اللسان.
ان ديوان “مدينة الأرواح” ليس استعارة جمالية، بل هو نسقٌ وجوديّ يتسلل عبر المفردة، يفتّش عن ملامح الإنسان في زمن الاغتراب، ويعيد للقصيدة وظيفتها الكبرى: أن تكون بيتًا دافئًا في برد المعنى، وأن تكون مرآةً لا تعكس ملامحنا فقط، بل تُعيد تشكيلها.
في هذا الديوان، تتجاور الصورة الشعرية مع البصيرة الفلسفية، فلا نجد زينة لغوية، بل نرى اللفظة وقد تحوّلت إلى شعاع، إلى حجرٍ في بناء جماليّ متماسك، أو إلى نبضٍ حيّ في قلبٍ مفتوح. هناك اشتغالٌ دقيق على المعنى، وحفرٌ عميق في طبقات الوجدان، مما يمنح النص طاقةً مضاعفة تُشبه ارتجاج الروح حين تصغي إلى نداء غامض من الأعماق.
يبدو ان الاستاذ فايز أحمد الشمس شاعر يؤمن بأن القصيدة ليست هروبًا من العالم، بل اختراقٌ له، وتحريضٌ على رؤيته من زوايا لا تراها العين المألوفة. لذلك، فهو يكتب كمن يفتح بوابات سريّة نحو مدن خفية، حيث الكلمات لا تُقال بل تُؤسَس، وحيث الحبر ليس سائلًا، بل دمٌ يجري في عروق البياض.
هذا الديوان لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُستعاد، كما تُستعاد الحكايات التي تترك فينا شيئًا من الحياة وشيئًا من الحلم، وربما شيئًا منّا نحن.
ان هذا الديوان لم يُقاس بعدد القصائد أو تنوّع البحور، بل بمدى ما تتركه القصيدة من ارتعاشةٍ في الوجدان، ومن تساؤلٍ في العقل، ومن أثرٍ لا يُمحى في القلب. فالشاعر لا يركن إلى البلاغة الجاهزة، ولا يستعير المجازات المعهودة، بل يخلق لغته من لحم التجربة، ويصوغ صوره من ندى الذكرى ورماد الحنين. كلّ بيتٍ كأنه بابٌ مفتوحٌ على مصيرٍ ما، وكل مقطعٍ كأنّه روحٌ تبحث عن جسدٍ تنطق من خلاله.
وثمة توقٌ دائم في النصوص إلى خلاصٍ باطني، إلى تماهٍ بين المرئي واللامرئي، إلى التقاءٍ صوفيّ بين الشاعر والكون، بين الكلمة والنجمة، بين الحرف وظلّه. وكأنّ الشاعر يُمسك بمرآة لا تعكس وجهه فقط، بل وجوه الأرواح كلها، تلك التي عرفها، وتلك التي رحلت قبل أن تترك أسماءها.
ففي بعض القصائد، نلمح عتبًا خفيًا على العالم، نبرةً مشبعةً بالحكمة المرّة، لا بالصراخ، بل بالصمت الناضج الذي يقطر من أطراف القصيدة، كدمعةٍ لا تُذرف، بل تُكتب. وفي قصائد أخرى، يُحاور الشاعر الحياة كأنها أنثى عابرة، أو يواجه الموت كما لو كان صديقًا قديمًا عاد دون موعد، أو يتأمل الوحدة كأنه يتأمل شجرةً وحيدةً في صحراء الأسئلة.
هنا، لا نجد زخرف القول ولا بهرجة الصورة، بل جوهرًا شعريًا نقيًا، يُستخرج من عمق التجربة الإنسانية، ومن طبقات الشعور الكثيف. فالديوان أشبه بمخطوطة عتيقة كُتبت بالحبر والدم، بالصوت والسكوت، بالعتمة والضياء، ليكون شاهدًا على شاعرٍ يرى الأشياء بقلبه، ويكتبها بروحه، ويمنحها لنا لتكون جزءًا من ذاكرتنا نحن.
فهي اشبه بالمقاماتٌ الشعرية التي تسكن النفوس كما تسكن البيوت، وتغادرها كما تغادر الحكايات أفواهَ الجدات حين ينام الأطفال. إنه ديوانٌ يُجيد الإصغاء لما لا يُقال، ويجعل من القصيدة مرآةً للروح في زمنٍ تكسّرت فيه المرايا.
وهكذا، يغلق ديوان “مدينة الأرواح” بابه على قارئٍ لم يعد كما كان، بعد أن عبر دروبه المُضيئة بالأسى، والمسكونة بالأمل، والمبلّلة بندى الحنين. فهو ليس ديوانًا يُقرأ ليُنسى، بل يُقرأ ليُحفظ في ذاكرة الإحساس، ويُروى كما تُروى الأساطير في ليالي العزلة الطويلة. لقد نجح فايز أحمد الشمس في أن يجعل من الكلمة روحًا، ومن القصيدة وطنًا، ومن الحرف جسدًا نابضًا بالحياة. وفي هذا العبور الشعري، لا نودّع الشاعر، بل نتركه هناك، جالسًا في ظلّ المعنى، يُصغي إلى الأرواح، ويكتب لنا من عمقها قصيدةً لا تنتهي.
وهل يُختم الحديث عن مدينة الأرواح دون أن نرفع التحية لقلمٍ يجمع بين وهج الشعر ونبض الإعلام؟
إنّ الاستاذ فايز أحمد الشمس ليس شاعرٍا يكتب بنبض القصيدة ، بل هو إعلاميّ يُجيد أن يجعل من الكلمة منبرًا، ومن المعنى رسالة.
ففي ديوانه هذا، نرى روح الشاعر تتماهى مع حسّه الإعلامي المسؤول، فيصوغ القصيدة بوعيٍ عميق، ويمنحها بعدًا إنسانيًا يتجاوز الجمال إلى التأثير. فتحية لقلمٍ يعرف كيف يُنير السطر، ويُصغي لنبض الأرواح، ويجعل من كل قصيدة وطنًا صغيرًا يسكن القارئ ولا يغادره.