لكِ ما شئتِ
فاحذري أنْ تشائي
عبثًا في طفولةِ الأشياءِ
…
في دمي حيرةُ الوجودِ
وشِعري
رعشةُ الماءِ في فمِ الصّحراءِ
…
هذهِ الأرضُ كوكبٌ يتهاوى
باتّئادٍ في هوّةِ الظّلماءِ
…
بُعثَ الأنبياءُ فيها كثيراً
وأجادَتْ خيانةَ الأنبياءِ
…
هذه الكسور مجتمعة تلائم انكسارات القلب من لكِ إلى الأنبياء ،أربعة أبيات أقل من قصيدة حسب مصطلح العروضيين وأكثر من ديوان حسبي .
هناك رعشة اليدين عند الأخطل بمعنى الهرم والعجز مطمْئنًا “عاقد الحاجبين” :
أصفرةٌ في جبيني أم رعشةٌ في اليدينِ
لكن الرعشة عند يوسفنا هي للماء فكيف سيذهب بنا الخيال الكسول ونحن معتادون على الجاهز المعلّب من الشعر ؟
الخطاب موجه إلى أنثى أو إلى شجرة أو إلى غيمة ، هنا تتعدد الدلالات والانزياحات وللقارئ أن يركض وراءها ، وإذا لم يصل ولن يصل فهذا يعني أنه يركض وراء ظل ظليل وكائن جميل.
الماء المرتعش في فم الصحراء هنا الجمال الفني يكمن في اللغة الحية النابضة بالمشاعر والأفكار ومن هذه الكسرات المتتالية تحلق صافات كسرب من الحجل، كما يكمن في الصورة البيانية التي تمتح من التراث والمعاصرة ومن شخصية الشاعر نفسها.
لا أقول من الوزن هنا لأن الشاعر أتى بالشعر كاملا دونه ، وقد جاء الوزن تحصيل حاصل، بمعنى أنه لم يجعل الوزن همه الأول ولا الأخير .
باتّئادٍ في هوّةِ الظلماءِ
نلاحظ هنا أيضا توالي الكسرة مجرورة ومضافة إليه وكأني بالشاعر يقصد أن يكسر قلوبنا المكسورة أيضا لعلها تُجبر حسب قانون نفي النفي .
أما البيت الأخير فوحده قصيدة كاملة ذات فكرة يتحدث عنها الفلاسفة والمفكرون وهي إجادة القتل ، قتل الوطن والإنسان والحياة.
إم كلمة كثيرا في البيت الأخير دالة على الزمن كله ماضيا وحاضرا ومستقبلا ،فالقتل يومي ، والقتلة مدمنون لا يرتوون ولا يشبعون .
المفارقة:
كذلك اعتمد يوسفنا على المفارقات والتضادات: لك فاحذري، والماء والصحراء،
وكوكب والظلماء، الأنبياء والخيانة…وهذه المفارقات تدل على ما نحن فيه وما نحلم به ، هي مفارقات الحياة والموت ، ففي الوقت الذي يخترع العالم طرقا جديدة وجميلة للحياة نحن نخترع طرق الموت ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
هذا النص الشعري شعر فائق الجودة، فكل عناصر البلاغة توفرت فيه ، ولو خلا من الوزن لما تضرر كثيرا، فالشعر الحقيقي غناء الروح سواء أخذ بالوزن أم لم يأخذ.