لقد آنَ للأدب أن ينهض من رقدته، ويُستعاد من بين أنياب التكرار والفراغ، بعد أن أُغرقَ ـ في السنوات الأخيرة ـ بسيلٍ من الرواياتِ التي لا تحملُ في جوفها معنى، ولا تنهضُ بفكرة، ولا تنبضُ بقيمة.
نصوصٌ أقربُ ما تكونُ إلى “اعترافاتٍ مريضة” أو “هلوساتٍ مكتوبة”، تُغرق القارئ في بؤسٍ دون طائل، وتُسهم في تقويض القيم، وقتل المثالية، بل وإعدام الذات في فوضى الانفصام، وهشيم التيه، ومعارك عبثية على أسِرّة الوهم والتضليل.
قرأتها بشخصية المؤرخ، فهالني خواؤها من الدلائل والتوصيات، ومن أيّ أثرٍ تأريخيّ أو معرفيّ يُوثّق الواقع أو يعيدُ تأويله.
ثمّ قرأتُها بعيْنِ الأديب الناقد، فلم أجد فيها أملًا يُبشّر، ولا حبًّا يُصوَّر، ولا وجدًا يتخفّى بين السطور.
افتقرت إلى رمزيةٍ تُحفّز، وإلى بنيةٍ تشدّ، وإلى سيمائيةٍ تنسج عوالمَ المعنى.
لا موضوعاتية تضبط، ولا لغةٌ تُجيد العزف على أوتار الجمال.
لقد آلمني أن أجد هذه النصوص تتقدّم للواجهة الأدبية تحت لافتاتٍ براقة: الواقعية، الجرأة، التحرّر.. وهي في جوهرها لا تمتّ إلى تلك القيم بصلة، بل تُسهم في تسليع الأدب، وتحويله إلى منتجٍ استهلاكيّ يُقاس بالضجيج لا بالعمق، وبعدد النُسخ لا بجودة الفكرة!
فهل باتت الهلوسة تُسوَّق بوصفها إبداعًا؟
وهل أصبح التيهُ والتشظي مدرسة أدبية يُشاد بها؟
شتّان — وشتّان — بين الأدب والانفصام،
وبين اليأس والإبداع،
وبين الشذوذِ والتعبير الإنسانيّ النبيل.
إنّ الأدب الحقّ ليس مساحةً لتفريغ العُقد، ولا منبرًا للتشكيك في القيم، بل هو فعلُ إحياءٍ، وممارسةٌ جماليةٌ تُضيءُ الوعي، وترتقي بالذائقة، وتصوغ من الألمِ أملاً، ومن التيهِ بوصلة.
في زمنٍ تكاثرت فيه النصوص، وقلّ فيه المعنى، نحن بأمسّ الحاجة إلى أدبٍ يُرمّم الإنسان، لا أن يُدمّره.
إلى نصٍّ يُربي الذوق، لا أن يُشرعِن العدم.
إلى كاتبٍ يرى في الكتابة عهدًا ومسؤولية، لا لحظة فضفضة عبثية تُزيَّن بالغلاف.
إنّ الأديب الحقيقيّ هو من يكتب ليُبقي الإنسان حيًّا داخل الإنسان، لا من يُرديه قتيلًا تحت ركام ..