لم تكن مدينة بيروت في القرن التاسع عشر قد اكتشفت الفن المسرحي بعد، وكان من الطبيعي أن لا تنشأ في المدينة الصالات المخصصة للعروض المسرحية. وكانت آنذاك الوسائل الترفيهية المتاحة تكمن في شكلين من أشكال الفنون الشعبية تتمثلان في عروض “خيال الظل” و”الحكواتي”، في المقاهي، ولاسيما مقاهي ساحتي “البرج” و”عسور” (رياض الصلح حالياً). شكّل هذان النوعان من الفن الشعبي بذور بداية المسرح اللبناني، فقد تضمنا بعض خصائص المسرح كالنص والأداء والجمهور، لتمهد الطريق في ما بعد للحال المسرحية اللبنانية إنطلاقاً من العاصمة.
•بدايات العروض المسرحية:
أواخر القرن التاسع عشر بدأت تظهر ملامح بدايات العروض والأعمال المسرحية في بيروت، ولكن ليس على خشبة المسارح، بل في منازل أعيان ووجهاء من الطبقات الميسورة والغنية، وتحديداً في المناسبات السعيدة وحفلات الزواج والولادة والختان وتكريم الضيوف والزوار الوافدين من الخارج. كما درجت في وقت لاحق العروض المسرحية في الصالونات الأدبية التي كانت حكراً على العائلات البورجوازية.
•المسارح المكشوفة:
مع بدايات القرن العشرين بدأت بيروت تعرف بعض صالات العرض المسرحي المكشوفة، وخشبات المسارح غير الثابتة لتقدم عليها العروض المسرحية.
في هذا الإطار يكشف المؤرخان عبد اللطيف فاخوري ومختار عيتاني في كتابهما “بيروتنا” ما يأتي: “نشير إلى وجود مسرح في محلة السور بجانب سوق الهال، كتب على مدخله بخط أحمر “تياترو سوق الهال” كان رسم الدخول إليه ستة قروش، وكان على الداخل أن يحني ظهره نظراً لانخفاض باب المسرح. وكانت كراسيه مبعثرة وعتيقة، خصلانها عريضة وأحضانها مثقوبة. وقد بلغت مساحته مئة متر مربع بما فيه المسرح والكواليس. وكان يحتوي على “لوج” من أخشاب مسمر بعضها إلى بعض”. ويضيفان أن الممثلين يقفون في آخر الرواية ويرددون نشيداً يدعون فيه إلى الحشمة والأدب ويدعون البلاد إلى الإستقلال، والجمهور إلى حضور رواية الليلة التالية.
مسارح المدارس
ترافق هذا النشاط المسرحي المتواضع مع إنشاء الفرق المسرحية من التلاميذ الذين استهواهم الفن المسرحي، فعمدت المدارس والمعاهد إلى تشييد مسارحها ليقدم عليها تلامذتها نشاطاتهم المسرحية، التي ما لبثت أن سمحت بتأجيرها من بعض الفرق الخاصة. يعدد الكاتب والمخرج المسرحي محمد كريّم في كتابه “المسرح اللبناني في نصف قرن” هذه المسارح: مسرح اليسوعية في الأشرفية، مسرح دار الأيتام الإسلامية في الطريق الجديدة، مسرح الحكمة في الأشرفية، مسرح البطريركية في محلة البطريركية (زقاق البلاط)، مسرح بيت الأطفال في منطقة الحرج، مسرح الفرير في الجميزة، مسرح الفريد في محطة “غراهام” عين المريسة، مسرح “وست هول” في الجامعة الأميركية في رأس بيروت.
•أول المسارح
خلال الربع الأول من القرن العشرين أخذت الحركة المسرحية في بيروت تزدهر، الأمر الذي استدعى إنشاء صالات عدة تستوعب الفرق التمثيلية الوافدة من مصر، فضلاً عن الفرق المسرحية المحلية. مع الإشارة إلى أن بعض هذه الصالات كانت تستخدم سينما ومسرحاً في الآن نفسه. غير أن هذه المسارح الأولى أُهملت ولم تعد صالحة للإستعمال إبان الحرب العالمية الأولى التي كان لها تداعيات وانعكاسات كارثية على بيروت، مما جعل الحياة فيها بالغة الصعوبة من جراء الفقر والمجاعة والأمراض والأوبئة والتجنيد الإجباري. بعد انتهاء الحرب الأولى، تتابع مجدداً النشاط المسرحي في بيروت.
في الحلقة القادمة سنعرفكم عن الصالات والمسارح التي أرّخت لجزء كبير من الحركة المسرحية اللبنانية، من خلال استعراض تاريخها والظروف التي أحاطت بتشييدها.
يتبع…
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
.