عطية صالح الأوجلي
هذه القصة جرت بمدينة بنغازي في الستينات من العقد الماضي … كان راويها احد الاصدقاء الذين لم استأذنهم في نقلها وبالتالي سأشير اليه بأسمه الإول صالح… كان صالح يقطن مع اسرته في حي السكابلي وهو احد احياء منطقة سيدي حسين … اشتهر الحي بانه يقطنه كبار رجال الدولة في العهد الملكي … مما جعله محط اعجاب … وحسد … وطمع
يقول صالح … كانت ليلة شتاء قارص … وكنت واخي في حجرتنا نتدفأ من البرد بكانون نار ونستمعان الى احدى محطات الراديو كعادتنا … حين داهمنا النعاس وتسرب النوم الينا
يقول صالح … قمت من نومي لإطفاء المذيع … وحين فعلت ورجعت الى دفء سريري … غاب النوم عني وصرت اتقلب في سريري لفترة لا بأس بها … وبينما انا استجدي النوم سمعت صوتا يصدر من وسط الحوش المقابل لغرفتنا … ارهفت سمعي لبرهة …وكدت اعود لنومي لولا انني سمعت خطوات تتجول في وسط الحوش … تسمرت في موقعي لبرهة … ثم مددت يدي أهز أخي بهدوء ليستقظ ويتطلع في …أشرت اليه بالصمت والاصغاء
تحركنا بهدوء شديد نحو الباب … ثم فتحناه بقوة وسرعة وخرجنا مسرعين لنفاجأ بوجود شاب صغير العمر بيده ما عرفنا لاحقا انه شوال قد وضع فيه كل ماوجد من اشياء … تدافعنا حوله ونحو نصيح وانقضينا على الشاب الذي ارتبك وانهار … ووسط الصراخ والضربات تمكنا من التغلب عليه وتقييد يديه
وبينما نحن نقيد الشاب المنبطح ارضا … فٌتح باب الحجرة المجاورة واذا بالسيدة الوالدة تخرج علينا وهي في غاية الدهشة والاضطراب … غير انها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت متسائلة … غير شنو فيه ياعويل …؟
قصصنا عليها الأمر … ونحن نتكوم فوق اللص الذي يبدو انه استسلم لقدره الجديد … واذا بالوالدة تتجه نحو المربوعة وتفتح بابها … قائلة لنا …هاتوه هنا … خششوه للمربوعة …انقض احدنا على رقبة اللص والاخر امسك بيديه المقيدتيين ودفعنا به نحو المربوعة …امرت الوالدة بفك قيده … ثم طلبت مني ان احضر اليه شربة ماء … ادركت ترددي … فاعادت امرها ونظرت بحزم نحوي … فذهبت لاحضار كوب من الماء من المطبخ … وعندما عدت وجدت اللص جالسا والوالدة تتحدث معه وتسأله … كان الشاب مططأ الرأس منكسرا ويتحدث بصوت خافت ونظراته تتجه صوب قدميه …قلت للوالدة … انا حنمشي انبلغ المركز انخلوهم ايجو ياخذوه … هزت رأسها ممانعة وواصلت حديثها واسئلتها نحوه
استمر الحال لبضعة دقائق … عندها قامت الوالدة واتجهت صوب المطبخ بعد ان اوصتنا بعدم الاساءة الى اللص … مضت لحظات ثقيلة بيننا نحن الثلاثة … لم نتحدث … كان التوتر والارتباك هو سيد الموقف … وبينما نحن نتبادل النظرات فإذا بالوالدة تدخل علينا بسفرة أكل ووسطها عصيدة سمن … وضعتها امام دهشتنا على الارض وقالت … تفضلوا … توا وقت فطور وبعدها الله ايدير طريق
لعلها كانت اغرب وجبة مرت بي … غير انني احتراما لها… اكلت لقيمات وبصعوبة … وكذلك اكل اللص باستحياء … بينما واصلت أمي الحديث وكان جوهره النصح والأرشاد … بصوت حنون وكلمات صادقة … وبعد انتهائنا من الأكل طلبت منا وسط ذهولنا ان نفتح الباب ونترك الشاب يمضي لحاله … كظمت غيضي … وفعلت ما أمرت به … وبعد خروجه بدقائق … جلسنا سوية في المربوعة لتحدثنا الوالدة قائلة … هو شاب صخير واخطأ … والمركز والسجن والمحكمة لن تأتي سوى بالفضيحة وانكسار قلبه … وربما انغماسه في الجريمة … بينما ما فعلناه قد يوقظ قلبه ويجعله يراجع نفسه … يا اعيالي … البونادم كان كان ما نفع فيه الخير مش حينفع معاه الشر
مرت عقود على هذه القصة التي اعترف انني أول ما سمعتها منه … ضحكت كثيرا واعتبرتها سذاجة أمرأة عجوز … لكن مع مرر السنين ادركت الحكمة التربوية التي استطاعت ان تصل اليها هذه العجوز بالفطرة السليمة … والتي وللأسف لا تزال غائبة عن الكثير من المربيين والمسؤولين في بلادنا