عبد العزيز غرمول
روائي وصحفي وسياسي من الجزائر
(يمتلك الإنسان ما يشاء من أمكنة إلا مكان الطفولة فهو يمتلكه حتى النهاية)
أن تعود إلى مسارح طفولتك، ستشعر حتما بتلك الدفقة التي تشبه رشّة ماء بارد تُصبُّ على رأسك، أنت الذي أخذتك إغفاءة أو غفلة المدن البعيدة، ستستيقظ على بذرة وجودك التي ترعرعت في هذه التربة التي لا شبيه لها بالنسبة لك في كوكب الأرض
كم يبدو كل شئ أليف وحميم كبيت الوالدين، وكم تبدو شجرة الذكريات هشة الأغصان كدالية عنب، لكنك تتسلقها كسعدانٍ مرح يحنّ لقطف ما بقي منها من عناقيد منسية في ذاكرتك. لطالما كانت دالية الذكريات تلك مكانا آمنا أستظل به في الأيام المشمسة وأختبئ تحته حين تجتاحني أمطار أحزاني أو عواصف عواطفي
كنت على عكس أهل الأدب لا أتميّز بحنين نرجسي لقرية طفولتي، وكنت أعتبر أن الكاتب الحقيقي يحمل قريته في داخله حيثما ذهب، هو من يزرع حدائقها، ويخترع زقزقات عصافيرها، ويشق مياه سيولها ودروب حقولها، ويصنع روائحها وعطور أيامها، ويبني فيها ما يشاء من غرف أو حصون للنساء اللواتي يحب، وبعد ذلك كله يفترش أرضها الداخلية الساحرة ويتفرغ لكتابتها
غير أنني انتبهت، ولو متأخرا بعض الشيء، أن تلك القرية الداخلية التي حملتها في حقائب أسفاري، والتي بنيتها من طوب الثقافات والتجارب، ومشيت طرقاتها كما مشى أوديب في عز شبابه طرقات طيبة منشدا أشعار الهوى سابحا في هواء عواطفه، إنما هي صورة مُحسّنةٌ لهذه القرية التي تركتها ورائي في خزانة الطفولة
إنني أمشي الآن في طرقاتها القديمة، كل طريق بدل أن يأخذني إلى طريق آخر ككل مسافر، يأخذني عميقا إلى داخلي، كل أفق يستعيد أفقا منسيا في حقائب العمر، هنا مدرستي التي محى الزمن علاماتها، هنا شجرة الدردار التي تعلمت تحتها العزف على القيثار، هنا حجر الزاوية الذي راقبت منه مرور بنات الجيران، هنا كان بستان المشمش الذي تعلمت فيه النط على السياج إذا غفى الحارس، هنا كان دغل نخاف المرور أمامه ليلا لأن الأشباح تسكنه (حسب ما أكده لنا صاحب الضيعة!)، هنا خاصمت صديقا قديما نسيت اسمه، هنا رضعت أول الشعر ، هنا… وهنا… في كل خطوة أترك مثل فارس “نجمة خُضّار” حزمة عشب تدلني عليَّ
أين تراني أمشي.. هل في داخلي.. هل أتعرف علي أنا الطفل الغريب الذي كلما حرّك حجرة أو لامس شجرة أو رأى طائرا انبثقت فيه شرارات من ألعاب نارية قديمة قدم هذا العالم، واستعاد فجأة فرحا طفوليا كان قد نسيه على أرصفة مدن أخرى… وتعرّت أدغاله الداخلية، كما أجنحته، من أثقال السنين والتجارب .. أنا ذلك الطفل الصغير الذي لا يزال يتعلم المشي في طرقات الحياة، لا يزال يتلعثم في نطق الكلمات الرومانسية، لا يزال يعضُّ حبة الخوخ وكأنها خد أنثى، وينثر كلمات من عسل الخيال على بنات المدارس …
كل شيء يستعيد حيويته وحضوره الآسر في ذاكرة الطفل الذي يتسلق بصعوبة بالغة هذه الدالية الهشة التي جفت عناقيدها، تقريبا جفت لولا أن ماء الذكريات مبارك كزمزم مكة، لولا أن المسافر كان في حاجة لجنّة المأوى كي لا ينام في العراء، لولا قاموس الكلمات الموروثة في جينات الرجل الذي يرى ويسمع ويصغي ويلمس ويتغذى ويرتدي ويكتب ويضاجع ويتسلح ويفكر بفضل ذلك القاموس الأبدي الذي بدل وضعه في رأسه نسيه منذ الطفولة في أرجاء القلب
يا للطفولة البعيدة حين تهدف فجأة على بيتك في الزمن اللامتوقع، تقلب رفوف أفكارك التي رتبتها بصعوبة بالغة على ضفاف الكتب والأسفار ، تنثر مواعين أغذيتك الثقافية التي طبختها في مخابر الحياة، تستبيح الاستقرار القلِقْ الذي يأويك كعابر سبيل
غير أن تلك الطفولة – شكرًا لها – تنبهك لأول مرة أنك لم تكن طفلا بأتم معنى الكلمة، ولم تكن طفولة ذلك الزمن طفولة عادية كتلك التي تتحدث عنها الكتب، لم تكن لعبا ولهوا، لم تكن دلالا وأمانا، لم تكن عبثا ولا فراغا،،، بل كانت تمارين صعبة وقاسية على الحياة، ودروس مكثفة على المقاومة يجب حفظها على ظهر قلب كي لا ننهزم تحت ضربات الواقع القاتلة
وإذ أتأمل الآن جماليات الحنين بشيء من التجاوز والنسيان، لا يمكنني أن أتغاضى عن قسوة الأسئلة التي كانت تعجُّ بها تلك الطفولة – البطولة، ولا عن رهق الأحلام التي كانت في اتساع الخيال، ولا حتى عن مشروع الهجرة الذي كان برنامج حياة… ومع ذلك كنت من جيل مسكون بالتحدي، كنا جميعا مسكونين في طفولتنا بهاجس التفوق، وكانت حصتنا الطبيعية من الألم تعادل شحنة العناد والإصرار التي تدفعنا للتجاوز وإعادة إبداع أقدارنا من معدن الأمل الصلب
لم تكن بني فضة، كما يحلو لي تسميتها، قرية، كما لم تبلغ يومها سنّ المدينة، كانت بين بين، فيها مساوئ الريف العاري من كل أمل، وطمع المدينة الذي لم يتحول بعد إلى طموح، وكانت أحلامنا المحشوة بأغذية الكتب وبذخ الخيال تدفع بنا إلى سماوات تضجُّ بالمشاريع والبرامج والأعمال، ومن حظ بَعضنا، وأنا منهم، أننا أنزلنا الخيال إلى أرض الواقع، وأسرجنا للممكن ظهر المستحيل
الآن وأنا أمشي في حقول الذكريات مرفوقا بتاريخٍ لا أخجل منه، وصحة عقلية جيدة، وقلب سليم،،، مشفوعا بتراث من النضال والمقاومة المستميتين من أجل إثبات الذات، أقول رغم كل شيء أنني نجحت، نجحت في اختبارات الحياة التي تدربت عليها في طفولتي
صحيح، في طريقي فقدت الكثير من الأصدقاء، والكثير من الأحلام غير المسلحة، والكثير من ذلك الطفل الذي ولد من بطون الكتب، وخاصة الكثير من أوراق العمر… هل حقا مرت خمسون عاما على ذلك الطفل الذي ارتكب للمرة الأولى حماقة الحب، حب هذا المكان الذي لا شفاء منه… شكرًا للمكان والزمان على كل شيء… شكرًا للحياة