بقلم: ليلي تباني/قسنطينة
هل سنعيش معا كإخوة أم أنّنا سنفنى معا كأغبياء؟
هكذا تساءل وحلم لوثر كينغ، وهكذا فسرت الروائية والشاعرة زينب لعوج رؤياه. فقد كان لديه حلم، فظن البعض أنه تحقق على أرض الحريات رافعة نصب تمثال الحرية، فاجأتنا الشاعرة الدكتورة “زينب لعوج” بمقاربة جدّ ذكية حين اختارت المكان والزمان والشخصيات بدقة ودلالة لامتناهية، فبعد الغواية النصية الاولى، راحت الروئية تنسج خيوط الرواية على شاكلة المحترفين على الرغم من حداثة تعاملها مع السرد الحكائي الروائي. ورمت وكانت من الصائبين ، وما رمت إذ رمت ولكنّ التجربة التي عاشتها في أمريكا رفقة زوجها الأكاديمي والروائي العالمي المعروف ” واسيني لعرج ” هي التي رمت بأثقال معاناة العنصرية، وعقدة العرق المتفوق وواجب نقل الرسالة إلى الأجيال
لعلّ ما جعلني أبهر بالرواية هو الأصالة والتجديد مجتمعان. فالقضية التي عالجتها الكاتبة ضاربة في عمق الجدليات الفلسفية والقيم الانسانية متجذرة في تاريخ البشر و لا يخفى على الجميع جدلية الانتقاء العرقي التي تبدأ منذ سلالة سيدنا ” نوح “عليه السلام وولديه سام وحام .منذ ذلك التبجس في العرق الواحد ونحن ننزف وندفع ثمن عقدة الانتماء إلى الأفضل
أتقنت الروائية توظيف الرواية للدلالة على حلم التحرريين الهارب في تحقيق العيش في سلام وأمان ضاربين الاختلاف في الأديان والأعراق والألوان عرض الحائط .نعم هو حلم هارب فكلما اعتقدنا أننا حققناه، وقعنا في فخ السراب
رواية ” سويت أميركا ” مجال دسم لمحاكاة الواقع المرير واستذكار أمجاد الماضي الغبي الضارب في أعماق وهم أفضلية العرق والدين
برعت الكاتبة في الإجابة عن تساؤل “لوثر كينغ ” في هل ما إذا كان بمقدورنا أن نعيش معا كإخوة أو أن نفنى معا كأغبياء. أبطال الرواية يقضون الواحد تلو الآخر بغباء الحقد وزرع بذور العنصرية وحصد ثمار الكراهية والفناء المحتوم. وبذلك تكون الشاعرة قد انتقلت بسلاسة من تجربة الشعر إلى الرواية آملة أن ترمم عطب روح الأمم المتهالكة (بما فيها المجتمع العربي) بمناشدة العيش الطوباوي في أميركا ، لكنها تصطدم بواقع مرير فلا مجال للبحث عن التعايش و التآخي في مجتمع لا يحمل من الحرية والتآخي سوى أشكال الحروف ورنين الشعارات
تتمحور أحداث الرواية حول فكرة تقبل الآخر والعيش المشترك، باعتبارهما ضرورة إنسانية للاستمرار، وتتطرّق إلى أمراض العصر عالميا، من خلال يوميات مدينة أمريكية صغيرة اسمها فريلاند ” الأرض الحرة” تخترقها العداوة والعنصرية ضد كل ما هو مختلف، عربي أو مسلم أو ملون البشرة. صورت لنا الروائية من خلال سخصية جيل (جلال) أنّه لا شيء في “فريلاند” يوحي بأنها أرض الحرية، بل هي ليست أكثر من مدينة عنصرية تتحكم فيها مجموعات التفوق العرقي، والكو كوسكلان التي وصل بها الأمر إلى اغتيال رئيس البلدية لأنه وقف ضد تجمع “وايت سبيريت” العنصري
“جيل”، يرفض وجوده في المدينة لانه مسلم؟ عربي؟ وهو ليس كذلك. مهنته ترميم المعالم الدينية (على اختلاف الديانات)، يُدعى إلى المدينة لترميم كنيستها التي أهملت طويلا. وسيجد جلال نفسه وسط موجة عنصرية غير مسبوقة، وينتشر فجأة خبرا مغرضا سرى في هذه المدينة ، مفاده أن مرمّما مسلما سيقوم بترميم الكنيسة الكبيرة، ما جعل الشكوك والشبهات تحوم من حوله. إذ كيف لمسلم أن يدخل مدينة خالصة العرق الأبيض حسب قناعاتهم ، ويستوطن المكان ويسكن منزلا بمحاذاة الكنيسة. وكان ذاك السبب وراء تصاعد الأحداث و تفاقم الأحقاد.
يتشارك كل من ” كايا” (زوجة جيل ) و يامي ونويمي (ابنتيهما ) وفريديركو مساعده في الترميم وغترسيا خوسي (الباسكي ) الشخصية المؤجّجة لذروة الرواية .ويكون ذلك الباسكي بمثابة مخلص فريلاند من عقدة العنصرية تماما مثلما كان المسيح عيسى ابن مريم مخلص البشرية .
تعرض الروائية أحداث نصها في شكل درامي ممتع فتحدث سجالاً غير ظاهر، ولكنه يختبئ وراء الجمل والعبارات. رواية جميلة اللغة التي نمنمنها بإتقان واضح وجميل، بأسلوب أنيق مجدد يتماهى وروح العصر اعتمد على المزاوجة بين السرد السلس والوصف الدقيق المسهب مترامي التفاصيل . لدرجة تجعل القارىء ينصهر ويتعاطى مع الأحداث فيمسح دموع أبطال الرواية بعد اغتيال ابنة جيل وكايا بمنديله. فتبدع بشكل منقطع النظير حين تبوب روايتها إلى فصول دالة توحي بمحتوى الأحداث (عبور ـ ترميم ـ ضغينة ـ إشارات ـ رحلة ـ اختطاف ـ قتيلة ـ رأيت حلما ) لتثبت للقارىء العادي والناقد المتمرس احترافيتها المنهجية . وترصع نصوصها بديباج لغوي جميل وبلاغة السهل الممتنع غير المتكلف .المتأمّل لفقرات الرواية يجدها تعج بالمعلومات التاريخية الدقيقة المؤرخة باليوم والشهر والسنة و المصطلحات الحديثة والمحدثة الدالة (النيونازية ـ الماكرثية ـ KKK …)والثقافية الماتعة التي تنم عن تشبع الروائية ثقافيا وفنيا (الأناشيد ـ التشيللو ـ الساكسفون …..). لم تخل الرواية من البنية البوليسية. وصفها لإعداد الجريمة يوحي بتأثرها بالروائية العالمية “آجاثا كريستي” ، كما ينبىء أسلوبها الجريء في وصف المشاهد المشتهاة غير المكبوحة بتأثرها بالروائي الكبير ” واسيني لعرج ” ما جعلنا نحتفظ بالكثير من العبارات الرنّانة في الذاكرة ونرددها كلما دعت الحاجة كقولها : ” النار تنجب الدفء ، ولكنّها تنجب الرماد أيضا ”
لم تكن زينب سبّاقة لطرق باب قضية العنصرية والعرق لكنها صدحت بمرارة معايشة الأحداث أدبيا فقدمتها باناقة روائية كبيرة . فما أشبه اليوم بالبارحة وقد صدح في سياق فني آخر الفنان المغربي الكبير ” عبد الوهاب الدوكالي” حين غنى “مونبرناس ” فما أشبه اغتيال الباسكي على مرأى من سكان” فريلاند ” باغتيال الشاب الجزائري برميه من القطار على يد شرطي فرنسي في حي مونبرناس بباريس
سكنت مدائنا تغتال صوتي ..وتفترس الحقيقة بالرطان …. وما زال الفتى العربي فيها ..غريب الوجه واليد واللسان……قال أحمد بخيت….وما يُسقط على العربي قد يطال غيره من كل الاعراق ….والحرب تدور رحاها حول الاعراق والالوان، ولم يبق من قيم الحرية والمساواة سوى سيميائية الحروف فقد أفرغت من دلالاتها بفعل فاعل خبيث تماما مثلما تحمل فريلاند من الحرية سوى رنين الحروف. ويا لها من أعذار أقبح من الذنوب نفسها لا يفسرها إلا صيق الرؤية. ما يضير عميان البصر والبصيرة ان يكون المرء مسلما او مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا؟ أليس خالق الاديان وحدا ووحيدا؟
تضعنا الرواية في النهاية امام واحدة من اكبر معضلات العصر: صورة الآخر فينا؟ وهذا ينطبق على الكل حتى ابناء الوطن الواحد