أين هي تلك القلوب النّابضة بالحبّ ؟ أين هي تلك الأيادي الملوّحة بالتّحيّة، الممدودة للمساعدة؟ أين هي تلك العيون الشّاخصة للّقاء والمترقّبة لرؤيتي
ورؤيتك ؟ أين هي تلك الأرواح المتعانقة على رصيف الحياة في البعد والقرب؟ أين هي لقمة العيش الّتي تجمع أفراد الأسرة على مائدة العائلة ؟ أين هي تلك الجلسات الحميمة والأحاديث اللّطيفة الّتي تكشف النّقاب عن أفراح وأتراح العائلة في جلسات تبادل الهموم والتّخفيف من أعبائها؟ أين هي تلك اللّهفة عنداللّقاء والتّعبير عن الحبّ والاشتياق؟ وتلك الضّمّة الحميمة عند اللّقاء و تلك الدّمعة الحارقة عند الفراق ؟ هل قست القلوب وجفّت المحاجر وتحجرت المشاعر؟
أين أنت يا أمّي؟ وكيف حالك يا أبي، وماظروف حياتك يا أختي؟ كلمات غابت من قواميس العائلات، وأتساءل وأتساءل : لمن أعيد هذا الواقع الأليم ؟ ، وعلى من ألقي التّهمة ؟ : هل أخفتها دهاليز الحضارة وتطوّر التّكنولوجيا العمياء والصّمّاء؟ أمّا اتّهم تلك الهواتف الموسومة بالذّكاء؟ موضوع يشغل بالي ويؤرّق خاطري ولا يشعرني بالارتياح والاسترخاء.
نعم يقول السّيّد المسيح بما معناه : ” سيأتي يوم لا يعرف فيه الأخ أخاه ولا تعرف فيه البنت أمّها وتتغاضى الأمّ عن أحزان أولادها ويتوه الأب في عالم غارق بملذّات الحياة ” . هل وصلنا إلى ذلك اليوم؟ وهل صدقت تنبّؤات المسيح؟ وهل رسّخت حالتنا هذه الإيمان في القلوب؟ .
تساؤلات وتساؤلات تدور في خلدي وفي خاطري، وأقف على أطلال العائلة لابل على أطلال صلات الأرحام في مجتمعنا البشريّ تلك الّتي دعت إليها كلّ الكتب السّماويّة، و الأعراف الاجتماعيّة ، حيث يقول الرّسول العربيّ والنّبيّ محمّد( صلعم) في قرآنه الكريم عن لسان اللّه العليّ العظيم بما معناه : “لا يدخل قاطعو الأرحام جنّتي “. ويوصي بقوله : أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك ثمّ أبوك ” أين نحن في زمننا الحاضر من تلك المقولات وهل ابتعدت الأرض عنِ السّماء؟
وعندما نتواصل مع الأصدقاء نسمع شكواهم وكأنّ أولاد هذا الزّمن تربّوا في عائلة واحدة وتخرّجوا من نفس المدارس والجامعات، نسمع منهم بأنّها مشكلة العصر ومعاناة ليس لها دواء، فتلك أمٌّ أنجبت وربّت وسهرت وكبّرت، سافر أبناؤها لتحصيل لقمة العيش وبعضهم غارق بمشاغل الحياة وهي تعيش وحيدة لا بل صفرًا في عالم الأرقام والحياة ، تكضم في الصّميم جرحها وتبرّر لوحدتها ولبعد أبنائها عنها الأعذار و ذاك أبٌ أنجب وربّى وشقي لجعل أبنائه قبلة الأنظار يتلوى على فراش المرض والوحدة ويقدّ مضجعه الانتظار. أين نحن أيّها الأبناء الأبرار؟ هل نحيا في جنّة الحضارة الرّقميّة أم في جحيم اجتماعيّ ومعه عوائلنا تنهار؟ حاولت وحاول البعض ترميم الجدار فقاموا بزيارات عائليّة وطال بهم الانتظار لنظرة حبٍّ أو لبسمة رضى او لضمّة تنعش القلوب من جديد وتلتقي العيون لتؤجّج شرارة الحنان وتوقظ ما صار في غيبوبة النّسيان، علّها تحرّك القلوب لجبر الخواطر وبث الحياة والمشاعر في أوردة العائلة من جديد، ولكنّني أقولها بأسف : ظلّت الأنظار مشغولة بهواتف الذّكاء والأرواح مشدودة لعالم المادّة الزّائل وعذرها ضغطة الحياة والانشغال.
أين نحن في عالم يسوده العقم العاطفيّ والرّوحيّ وتعميه الحضارة و تقلقه المادّة وعذره الدّائم الانشغال ؟ هناك أناس يموتون ويبقون أحياء وعلى قيد الحياة وهناك أموات ما زالوا على قيد الحياة، فتحمّلوا أيها الأحياء، يا أصحاب القلوب النّابضة بالحبّ والحنان وعودوا إلى أنفسكم وتصبّروا على هذه المعاناة وقوموا بدفن وردم ما تبقّى من صلة الأرّحام وانهيار العائلات وتأمّلوا بالمقولة الّتي تقول إن لم يجبر خاطركم من في الأرض سيجبرها حتمًا ربّ الأرض والسّموات.