*مررتُ بحروبٍ، لم يبقَ منها رصاصةٌ في مخيلتي..
لفظتُها كتفاحة مهترئة.. وألقيت بها كحذاء ممزق.
لكن ماذا أفعل بهذا الرصاص الطائش البعيد، الذي يؤرق سكينة عصافير الحديقة.. ويطيّرُ النوم من عينيَّ؟
** كان خطاباً مكتوبأً بدخان الحرائق الذي دفعته الرياح إلى سماء قريتي الصغيرة..
أنا الطفل، حملت بين يدي، معاني أكبر مني. وقفتُ على كرسي في ساحة المدرسة..
وراحت الكلمات المرتجفة تتناثر في الفناء المدرسي، قبل أن تواصل تحليقها نحو الحدود.
التمعت عيناكِ فرحاً برجولتي المبكرة،
وأنا كنتُ سعيداً بطفولتك الناضجة.
خطابي الثوري أمام أترابي الصغار، يومذاك،
كان يشبه كثيراً أولى رسائلي في الغرام.
*** تسلقنا الجبال العالية، في غفلة من الأشجار؛
فتية يفيضون أحلاماً، يمشون في خيلاء كفرسان الأساطير،
يضربون الصخور بأعقاب بنادقهم، فتسمع الأودية صدى نبضات قلوبهم العامرة بالحياة.
على تلك المرتفعات البعيدة، حفرنا تحت الثلوج ، وجعلنا أجسادنا أسرّةً، وأقفلنا سحّاب الفراش جيداً حتى لا ينفذ إلى قلوبنا الصقيع.
كانت الشمس تغربُ وتشرقُ، ولا ندري من أي جهة تروح وتأتي.. ربما لا بوصلة بإمكانها رصد الجهات في تلك الجبال والأودية الوعرة..
نهضنا مذعورين من نومٍ قليلٍ، كان هناك جسدان على الأشواك، وعيونهما مفتوحة نحو السماء.
**** ذات يوم ربيعي، قصدنا أشجار البرتقال والليمون التي لم يقطفها أحد في سهل القاسمية.. والموز الأصفر المطل على نهر الليطاني، الذي صار منقّطاً وناضجا كالعسل في حضن أمه..
أذكر يومها بأنني شاهدت ظلال فدائيين، كانوا يسرعون الخطى نحو مواقع العدو على مشارف النهر.
***** كان الشاطىء عارياً إلا من الرمل والحصى وبقايا الهياكل المتهالكة،التي قذفها غضب البحر العجوز..
نحن أبناء القرى، الذين ألقوا بنا على السوار الملتفّ حول خصر المدينة، لم يطلبوا منا أن نبني قصوراً وقلاعاً، كما يفعل الأطفال في رحلاتهم العائلية، كان علينا أن نقيم منازلنا حفراً حتى مستوى الرأس المغطى جيداً.. و أن ندرك كنه الأصوات الآتية من بعيد، وتمييزها عن صراخ الموج المتعالي..كان ينبغي أن نرصد حيل القراصنة المبحرين من جهة الجنوب.
****** في الباص من فلسطين، مرورا بالطريق البحري نحو صور؛ تأملت زرقة البحر والسماء الصافية، وأشجار السرو والليمون المتمايلة فرحا كأنها العارفة بمعانقتنا الحرية.
حين أنزلنا الجنود، في جل البحر ، قرب قناة للري في أحد البساتين، الأغنية الأولى التي سمعتها، انطلقت من مذياع سيارة كانت متوقفة في المكان.. كان وديع الصافي يغني: الله معك يا بيت صامد بالجنوب..
رميت الحذاء الضيق الذي كان يؤلم قدميّ.. وقفزت بثيابي إلى الماء.
******* لا أزال أذكَّرُها، وهي تتسلل إلى سمائنا، بجمرِها المعدنيّ، في تلك المدينةِ الموحشة..
يا له، من غياب أن تقضي والحبيبة، بنار حمم لا قلب لها ولا عيون.