د. بهية كحيل
هذا الصباح
لقد طلقتها وانتهى الأمر .. صحيح أنني لم أحبها يوما لكنني لم أشعرها بذلك ، لم أقبل طباعها الفجة لكنني لم أظلمها
أحاسيسي تصل اليها واضحة ، وتجاهلها لتلك الأحاسيس يجعلني أدور في فلكها مثل ثور يدور في ساقية
دائما تثرثر وتثرثر باصرار مزعج .. تدمدم بكلام غير مفهوم ثم تتقوقع في زاوية الأريكة تتابع شاشة التلفاز
استفزتني حركاتها اللامبالية وأشعلت رأسي
نهضت كالمجنون ، رفعت يدي وهي تبحلق نحوي بعينين جامدتين ، صفعتها بحدة ثم رميت يمين الطلاق عليها
لم يعرف خالد ماذا حل به قد تكون لعنة أصابته كما أصابت هذه المدينة المجنونة
بتثاقل موجع راح يرفع قدما وينزل الأخرى، ينفث دخان سجائره بلا مبالاة ، الهواجس تملأ نفسه وهو يطفئ السيجارة الثالثة بحذائه نصف المهترئ
راح الحذاء يدور نصف دائرة فوق لفافة التبغ وفي رأسه تدور احداث هذا الصباح ، ارتعش وحاول أن يحصي عدد المرات التي طلق فيها زوجته … للأمانة هو لا يدري
أعاد النظر الى الحذاء ، وراح يضغط بقوة أكبر فوق لفافة التبغ تذكر أنه لم يشتري حذاء جديدا منذ سنوات حتى في الأعياد كان جل اهتمامه منصبا على تأمين أحذية لزوجته وطفليه بلع ريقه …نعم زوجته تلك الآلة الثرثارة النكدية التي طلقها منذ ساعة
في الطريق الذي امتد أمامه طويلا المدينة مازالت غافية على خوفها ، على الرصيف بعض الدواليب المحترقة ،حاوية قمامة مقلوبة على فوهتها ، والقاذورات تملأ الشارع
استقل الحافلة ، فتح الشباك ، أطلق تنهيدة ، ونظر الى انعكاس ساعده الأيسر على زجاج النافذة
مال قليلا ليرتب خصلات شعره التي لوحتها أشعة الشمس فبدت ذهبية وتساءل في سره
لماذا اسراء تندب حظها العاثر دائما ؟
ما ذنبه أنه لم يعد يستطيع تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة ؟
توقفت الحافلة قرب عربة فاكهة ،عبقت في أنفاسه رائحة الفريز الطازجة الذكية التي يحب ، سيشتري كيلو هذا المساء هكذا حدث نفسه فابنته الصغيرة تعشق هذه الفاكهة أيضا
ينزل مع عدد من الركاب ، ويكمل طريقه سيرا على الأقدام الى سوق العتمة حيث يعمل في دكان لبيع اللحوم
على مدخل السوق ، فوق الجدار الحجري العالي لباب انطاكية وفي فتحة دائرية تآكلت حوافها وغاب لونها نعب الغراب قليلا ثم اختفى
انقبض صدره لكنه تابع السير على الحجارة السوداء المرصوفة بعشوائية متجاوزا كومة كعك وحلوى رخيصة بدأ جاره العجوز بعرضها أمام دكانه أما باقي الحوانيت فقد لمح على أبوابها الموصدة حروف سوداء كبيرة كتبت على عجل وبخط رديء…… اضراااااب
ناداه العجوز بصوت خفيض وأشار الى الحوانيت المغلقة
أجاب كلها شغلات فاضية …..لديهم دولارات مكدسة ولدينا أطفال ينتظرون طعام العشاء
ثم فتح الدكان بساعده القوي علق لحوم البارحة وانتظر سيارة المسلخ التي تأتي عادة في مثل هذا الوقت المبكر
سيأتي صاحب الدكان بعد قليل ، وسيمتلأ السوق بالناس سيبيعون (خسكار) اليوم ، وسيقبض يوميته ، سيشتري الفريز لابنته … آآآآه ما أجمل حباته وأشهى رائحته
التفت يمنة ويسرى ، السوق مازال فارغا راح يحدق في حنفية المياه المعدنية التي احتلت ركنا قصيا وراحت تصدر صوتا متواترا تك …. تك
يتقاطع مع صوت زوجته وهي تغمغم بكلام غير مفهوم تفوح منه رائحة التأفف والتذمر وعدم الرضى
كانت الوجوه القليلة التي تمر مكفهرة والخطوات مسرعة حتى سيارة المسلخ لم تأت
تساءل في سره… هل أخطأ عندما فتح الدكان ؟
هل أخطأ عندما طلق زوجته هذا الصباح ؟
هل أخطأ عندما لم يتزوج ابنة خالته التي أحبها ؟
أشعل النار ليعد كأس شاي ثم نادى جاره العجوز
ضحك الجار قائلا : ألا ترى أننا وحدنا في السوق
يرن جرس الهاتف
صاحب المحل : ماالأخبار
لاأحد في السوق الا أنا وأبو محمود
أغلق الدكان جيدا … غدا سيتحسن الحال
شربا كأس الشاي على مهل ، والسوق كما كان صباحا عدا بعض المارة الصامتين المسرعين
في طريق العودة حدق في البلاطات السوداء المتباينة صعودا ونزولا.. مر تحت القبة الحجرية قرب ( كلة معروف)متجاوزا جامع الشعيبية منعطفا نحو باب انطاكية
قطة بيضاء تلحق أخرى حمراء تموءان بخوف وتختفيان في زواريب المدينة القديمة
نعب الغراب من جديد تناول حجرا صغيرا ، رفع رأسه ورماه باتجاه الجدار العالي المكسور ، صفعته شمس النهار تحت سماء مكفهرة وفوق محلات أغلق أكثرها
مر قرب عربة الفريز تلك ، الثمرات الوردية ذات الرائحة النفاذة تناديه وجيوبه الفارغة تجلده
صعد الحافلة تذكر أنه طلق زوجته ، راح الذنب يلاحقه وهو يرسم في مخيلته صورة لوجهها المدمى ، تراها تألمت كثيرا فاللطمة التي أسالت دمها أسالت دمعها أيضا
بدأ قلبه يضرب بشدة ، كيف له أن يكون بكل تلك القسوة أصابه ندم شديد على ما فعل أحس أنه ظلمها ، وأنها على حق فالأوضاع باتت مزرية وهي مازالت تنتظر الفرح الذي وعدها به
عليه أن يعترف بذلك دائما كان يعدها بالأفضل ولم يأت الغد الا بالأسوأ
اتخذ القرار سيعود ويصالحها سترضى كما كل مرة صحيح أنها ثرثارة لكنها طيبة القلب
نبت عرق كثير على جبهته جراء الانفعال هو أيضا معه حق فقد طحنته رحى الحرب وغلبه لؤم الحياة
أيقظته من هواجسه همهمات الركاب بتذمرهم من الأوضاع والندم لخروجهم من منازلهم هذا اليوم
زادت حرارة الشمس ، وزادت سرعة الحافلة التي مازالت تقطع الشوارع المقفرة
فجأة لاح دخان أسود عند نهاية الشارع ،صوت الانفجارات يعلو ويقترب ، رائحة البارود ملات الأنوف ، أما السائق الأرعن فقد تلبسه الذعر، انقص سرعة السيارة حتى كادت أن تقف وباتت ملامح الجميع تنتظر الكارثة التي لابد من حدوثها
لحظات كأنها الجحيم ، كل ما بقي عالقا في ذاكرته ، صفير حاد ، وميض أزرق ثم هالة حمراء ابتلعت كل شيء
في المشفى سمع صراخ المصابين ، أنين المتألمين
خيالات تعبر أمام عينيه ، ألم شديد في ساقه
رويدا رويدا تتضح الرؤية ، وما كاد يستفيق من الألم والهلع حتى بدأ المشهد يتوضح أكثر فأكثر فقد راح يرى بصعوبة جسد زوجته المسجى وحجابها المدمى
نعم زوجته تلك التي طلقها هذا الصباح
غرفة 19
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”