لا تفقه لغة العنف بل على آلة الخلود روحها تعزف، قبل فراق دارها قسرًا ورغمًا عن أنفها، على درج الليل جلستْ فرح تغوص في أعماق نفسها والأسئلة تحلّق فوق رأسها كالطائرات التي عشقت السماء فلم تعد تغادرها.
انصهرت مع موسيقى آلتها التي لم تفارقها طوال عشرين سنة من عمرها، إذ كانت تلجأ إليها كلّما احتدمت في نفسها المعارك فتخلق أنشودة سلام ترسلها للغيم مع النسمات التي تداعبها على تلك التلة المعهودة التي كانت تطل على قريتها.
كعادتها في ذلك المساء وهي جالسة تخيط على منوال ذكرياتها هبّت نار الشوق لبلدها في روحها وأرخت دمعها لذاك الصباح الذي قرع القدر فيه طبول الحرب التي التهمت أجمل الأشياء التي خلقت لأجلها ألا وهي الحياة.
“ككل صباح تستيقظ قبل الفجر بنصف ساعة ليتسنى لها الغوص في السكينة التي تحضن بهدوئها كل قلب، تصنعُ قهوتها التي اعتادت على رائحتها ترتدي ثيابها تمسك آلتها تطلق العنان لروحها بين أشجار الصنوبر تعدو كغزال عائد إلى حضن أمه، هذه مراسمها قبل وصولها إلى تلك التلة التي عليها أطلق أعذب الألحان، غير متقيدة بتقاليد وعادات يائسة كل ما تعرفه أن روحها هي التي تقودها نحو الجمال المطلق، تجلس على التلة حتى الساعة السادسة وتعود إلى منزلها ولكن سادسة هذا الصباح ليست كأي صباح.
رنّ الهاتف فور وصولها ان تفتح التلفاز لترى ماذا يحدث عند حدود بلدها وهي المسالمة التي لا تعتني بالسياسة وتفاصيلها، فتحت -على مضض- فانطبعت على وجه الشاشة أعمدة توشحت بالسواد والخبر يتلو الخبر عن فضاعة الأحداث المتسارعة عن تلك المشاهد الدامية، أغلقت التلفاز لا شعوريًا وبدأت الأفكار تحشد في رأسها مظاهرة، وما هي إلا لحظات قصيرة وسقطت أولى القذائف على أحلامها فكانت عائلة من الأشلاء تناثرت كالندى والدخان زيّن الحارة أمام ناظريها، هرعت إلى الداخل مخبئة رأسها بين ركبتيها حتى رأت أن الرحيل أجلّ ما يمكن فعله، خرجت من المنزل دون شيء من أشيائها ولا تخلو يدها من مفتاح عربتها، انطلعت نحو البحر وجه اليتامى-وللبحر في الحروب أحبار- لعدم فهمها المشهد قالت في سرّها إنها ليلة وتمضي كالعادة ولكن الأمر كان غير ما حسبت فهذه المرة طحنت الحرب سنين عمرها كالجوز دون أن تحسب لكل ما جرى أي حساب، غفت على مقعد عربتها التي أتخذت منها منزلًا على الشاطئ الذي لم تعد حبيبات الرمل تُرى إذا خَلِفتها الرؤوس… يتبع
عباس عباس
طالب في كلية الآداب
الجامعة اللبنانية