إرادة القوة حسب نيتشه
منذ أن نشر فريدريش نيتشه أعماله الفلسفية في نهاية القرن التاسع عشر وإلى اليوم، لا تزال أفكاره محل جدل وسوء فهم حتى لمن خصصوا جزء من حياتهم من أجل تحليل وفهم فكره. رغم ذلك، أصبح لهذه الأفكار تأثير كبير على تطور الفكر والنظريات السياسية من اليسار إلى اليمين منذ بدايات القرن العشرين.
فريدريش نيتشه لإدفارد مونش، 1906
أسهم نيتشه بعديد الأفكار الأصيلة والمهمة. يكفي أن نذكر مفاهيم مثل : إرادة القوة، العدمية، العود الأبدي، إنقلاب القيم، الإنسان الأعلى… لكنه أبدع كذلك في أسلوب الكتابة. فهو قد كتب “هكذا تكلم زرادشت” كملحمة شعرية وفلسفية في نفس الوقت، بينما كانت بعض الكتب الأخرى (العلم المرح، هو ذا الإنسان…) تجميعا لحكم وأمثال بشكل يجعلها إبداعا فنيا بقدر ماهي أعمال فلسفية.
غير أن غنى الفكر والأسلوب النيتشوي جعلا فهم هذه المفاهيم غير متيسر (وهو أمر قد يكون متعمدا من نيتشه). كذلك أتاح للبعض تطويع فكره لأغراض سياسية أبعد ما يكون عما أراده هو نفسه. من ذلك ما قام به بعض معاصريه بتقديم بعض مفاهيمه بشكل يتناسق مع صعود الحركات القومية الألمانية والعنصرية. وما قامت أخته إليزابيث فورستر نيتشه بتزييف كتابه “إرادة القوة” بعد دخوله لمصحة الأمراض العقلية ثم موته.
في هذا المقال، سنقوم بتقديم قصير لمفهوم إرادة القوة حسب فريدريش نيتشه. كما سنقترح بعض الكتب والمقالات على علاقة بموضوع المقال.
مفهوم إرادة القوة
يقول نيتشه :
“ما عثر على الحقيقة من قال بإرادة الحياة؛ لأن مثل هذه الإرادة لا وجود لها، وليس للعدم إرادة كما أن المتمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة.
ولا إرادة إلا حيث تتجلى حياة، ومع هذا فإن ما أدعو إليه إنْ هو إلا إرادة القوة لا إرادة الحياة.
إن هنالك أمورًا كثيرة يراها الحي أرفع من الحياة نفسها، وما كان ليرى أشياء أفضل من الحياة، لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
هذا ما علمتني إياه الحياة يومًا، وأنا بهذا التعليم أهتك أسرار قلبكم، أيها الحكماء، فأقول لكم: إنه ليس هنالك من خير دائم وشر دائم؛ لأن على الخير والشر كليهما أن يندفعا أبدًا إلى التفوق والاعتلاء.”
على عكس بعض الفلاسفة السابقين كشوبنهاور، يعتقد نيتشه بأن الإستمرار في الحياة ليست هدفا في حد ذاته، وأن كل الكائنات تتحرك وتتغير في تجسيد لفكرة أكثر عمقا: إرادة القوة.
تجمع كلمة القوة (أو القدرة عند بعض المترجمين) بالنسبة لنيتشه معاني الإزدهار، القدرة والسيطرة والتطور. أما إرادة القوة، فهي الطاقة أو السبب الأصلي لكل حافز لدى الكائنات الحية من أجل تحقيق معاني القوة السابق ذكرها. هكذا تصبح الدراسة من أجل المعرفة والإبتكار، وعملية الإبداع الفني، وتكوين الثروة والسمعة تجليات مختلفة لإرادة القوة.
هذا النمو للقوة، ولإرادة القوة، لدى الكائن الحي لا يتم بطريقة عشوائية. بل هو يتبع توجها منبعثا من داخل تعقيدات الجسد. :
“ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. ان هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي”
يفسر نيتشه الحياة على أنها في حقيقتها تجسيد للمجهود المبذول نحو مزيد من القوة. وبالتالي، لا يمكن للحياة أن تتجلى في معناها الأكثر صفاء إلا عند إلتقائها بمقاومة مضادة تحفز هذه الطاقة وتدفعها للتراكم والإستعداد للفعل. فهو مثلا يعتبر قرون الإستبداد الكنسي في القرون الوسطى كنوع من المقاومة التي حفزت وراكمت القوة الفكرية في أوروبا، وكانت نتيجتها ثورة عصر النهضة الأوروبية.
ولأن إرادة القوة هي أصل الحركة والحياة، فإن هذه الإرادة في بعض تجلياتها قد تتجاوز الحياة نفسها بل وقد تصل إلى إزدرائها والتضحية بها.
إعادة إنتاج المفاهيم والقيم
يقوم نيتشه إعادة قراءة كل النظريات والمفاهيم حسب توافقها مع فكرته عن إرادة القوة. هكذا يصبح خيرا ما يخدم إرتفاع إرادة القوة والخلق، ويصبح شرا كل ما ينبع من الضعف.
“أي شيء يعد حسنا؟ كل ما ينمي الشعور بالقوة، وبإرادة القوة، والقوة نفسها داخل الإنسان. أي شيء يعد سيئا؟ كل ما يتأتى من الضعف. ما هي السعادة؟ الإحساس بأن القوة في تنامٍ، وأن هناك مقاومة يتم التغلب عليها”
نيتشه، نقيض المسيح
هذا التعريف يتناقض بوضوح مع المعايير الأخلاقية للثقافة الأوروبية الناتجة أساسا عن الديانة المسيحية.
إن الثقافة الأوروبية لم تنشأ من إرادة القوة المباشرة النبيلة مثلما كان عليه الوضع في الحضارات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية، بل بتنقيص القيم النبيلة الأصيلة لإرادة القوة، وعوضتها بقيم جديدة هي ما يسميها نيتشه بأخلاق العبيد النامية من الحسد والحقد : أخلاق تقدس المساواة بدل التفوق، ضبط النفس بدل الشجاعة، الفقر بدل الغنى…
هذه الكارثة وقعت بسبب “ثورة العبيد” عبر الديانة المسيحية وإرهاصاتها الحديثة : الديمقراطية والإشتراكية.
فكانت النتيجة إنتصار العدمية أي الإنهيار الشامل للقيم. وهو ما يعبر عنه نيتشه بموت الإله.
” كيف سنريح أنفسنا، قتلة كل القتلة؟ ما كان أقدس وأقوى ما يملكه العالم حتى الآن قد نزف حتى الموت تحت سكاكيننا: من سيمسح هذا الدم عنا؟ ما الماء الذي نملك لنطهر أنفسنا؟ ما هي مهرجانات التفكير، وما الألعاب المقدسة التي يجب أن نخترعها؟ أليست عظمة هذا الفعل كبيرة جدًا بالنسبة لنا؟ ألا يجب علينا ألا نصبح آلهة ببساطة لنبدو مستحقين لذلك؟”
نيتشه، العلم المرح
أخيرا
الإمبراطور نابوليون، أحد من ذكرهم نيتشه في كتبه كتجسيد لإرادة القوة الإيجابية الخلاقة
لقد حذر نيتشه قارئيه قائلا بأن ليس كل شخص يتحمل ويستحق الحقيقة. كما وصف نفسه بالديناميت. وهو بالتالي يضع فكره من أجل أقلية مبدعة هي فقط من لها الحق في أسمى مرتبة يمكن للإنسان أن يصلها : مرتبة مؤسس المبادئ والقوانين.
ولكن، وإن كانت رؤية بعض هذه الحقائق خطرة، فإن من المهم عدم التغإضي عن خطر آخر : تزييف الفكر لغايات نفعية أو سياسية. وهو ما تم بالفعل أثناء القرن العشرين لعدد من المفكرين، من بينهم نيتشه نفسه.
لذلك، من المهم جدا مواصلة الإهتمام بكتابات نيتشه المتاحة اليوم للجميع في المجال العام والتي تناولها عدد من أهم المفكرين بالتحليل والنقد.
عن دار الكامة