ما انبعث لحنٌ ولا رنّ وترٌ أو همس سرٌّ إلّا وكانت فيروز تلك المرأة الكونيّة، العالميّة مصدر انطلاقه عبر الأثير، وما زقزق عصفورفي وطني ولا ترنّم نسيم ولا صدحت ريح أو ناجت تراتيل العابدين إلها أزليا في صوامع العبادة أوأديرة الصّلاة ولا أذّن مؤذّن مناديا : حيّ على الصلاة،إلّا وكانت فيروز رقيقة في تحجّر القلوب وحمامة سلام في همجيّة الحروب، وما بزغ فجر من ظلام اللّيل آت، ولا هفا غصن بحفيف ملهم ولا ترنّم شلّال بخرير صادح من ينابيع الآهات إلّا وكانت فيروز سيّدة اللّحن وهمسة المناجاة.
فيروز، تولد في كلّ صباح ومع رفّة كلّ جناح، امرأة بحجم وطن، سماويّة الصّوت، تلك الّتي تبثُّ في الآذان نغما روحانيًّا، كمعزوفة رائعة النّوتات.
فيروز من أنت؟
أمن عالم قديم أو حديث؟ أم استمراريّة الفرح في الذّات؟ كونيّة أنت يا من بزغت موهبتك مع صرختك الأولى الّتي يصرخها المولود للحياة ، بلحن يخترق الرّوح ويتركنا في حالة من الخشوع أمام صوت سماويّ، يرسل لحنا يعزف على مكامن الروح والإبداع ويفوق ذلك اللحن الشّجي المنبعث من خلوات العابدين و
صومعات الزّاهدين.
تناغمتِ مع الطّبيعة والوطن وبلغت حدود الشّمس في دفء نغم لا نعلم من أي زمن هو أوإلى أي موطن ينتمي، ونتساءل أهو ابن الأرض أم ابن السّماء؟ تساؤلات تأخذ السّامعَ إلى عالم الكواكب والنّجوم في بزوغ فجر وأفول شمسٍ خلف الغيوم.
غنيّت للقدس: “ياقدس يا مدينة السّلام” ورتّلت للمجد ، غنّيت للجنوب فصار ترابه مجبولا بالدرّ والياقوت وصار لحنا تتناقله الأجيال ويقدّسون ترابه المحبوب، غنّيت للعسكر فصار للأبناء فخرا وفي قلوبهم يزهوحبّهم ويتمختر، بأغنيتك الشّهيرة “بيّي راح مع العسكر” غنّيت للحبّ فكبر حبّنا لك أكثر وأكثر.
وإذا قرعت نواقيس الكنائس في أيام الجمعة العظيمة يصيح المسيحيّون والمسلمون : الله أكبر، تربّينا على لحنك الشّجيّ حين ترتّلين بصوتك الصّادح : “أنا الأمّ الحزينة” فيتخطّى شدوك الشّجيّ حدود الألم ومكامن الحزن في الآهات.
غنّيت للمطر فصار هطوله يزيد وتغتني مواسمنا بك أكثر، غنّيت مكّة فحلا المجد في صحرائها وأزهر! غنّيت، “على جسر اللوزيّة” فصار محطّة كونيّة تحلو عنده وقفات العاشقين ويطيب النوم في ظلال أشجاره الوارفة تلفحها نسمات غربيّة فتهفو الأرواح إليه لتأخذ غفوة في ربوع نديّة ، ولن ننسى عندما غنّيت “الغضب السّاطع آت” حيث سطع المجد في أنغامك، فحرّكت عالما دنيويا و دينيا، رتّلت لابن الله وأمه وأثرت حنينا في النفوس يدعو للصّلاح، فكنت أمّا وإنسانة وديّانة وفنّانة ، كنت نغما سماويّا يخترق عالمًا دنيويا! فما بالك بمستمع تأخذه خلجات صوتك السّاحر الممزوج بنسمات تردّ الروح للمتعبين وتوقظ في النّفوس إيمانها الآسر ،وتسكرأرواحنا بجمال الّلحن والإبداع وتدندن بنغم الحياة وشغف الحنين، أيّ نغم من أنغامك وأيّ لحن من ألحانك لا يتخطّى حدود الزّمان والمكان، تنقله الرّيح هفيفًا لطيفا يطربَ القلوب قبل الآذان، فتطرب لسماعك ملائكة الإنس والجان، في أثير عنبري النّغمات والألحان!.
فيروز كنت ومازلت أيقونة، مبدعة، لا بل منارة حضاريّة وفنّية، تشرّفين الفنّ فيغتني بما قدّمته من أغنيات ومسرحيّات.
نغماتك تحمل للعالم أجمع روحانيّة اللّحن وإبداع الكلمات، فيروز أنت فخر للبنان، وصورة لعراقته ، لرقيّه لعالميّته، يا صاحبة الحنجرة الذّهبيّة الّتي تفيض طربا، ويا صاحبة الحضورلطفا وأدبا. يكاد صوتك السّماويّ الرّخيم يلامس حدود السّماء. فهل جئت من عالم الملائكة الّتي ترتّل في محراب الله ألحانا سماويّة؟ تاركة أثرها في الشّمس والقمر في البشر والحجر والشّجر،صوتك المؤثّر في العباد والجماد مما جعل أعمدة بعلبك تردّد صوتك الملائكيّ وتهزج فرحا في أمسيات الزمن الجميل، كونيّة أنت يا ملائكيّة الصّوت والرّوح، ينتابني الشّكّ بأن لا يكرّرك الزّمان.
أيّتها القريبة من القلب والوجدان، خالدة الصوت أنت وعصيّة على النّسيان! أطال الله بعمرك يا أيقونة الطرب يا أرزة من لبنان! وسيبقى صوتك أعجوبة الأجيال فتطرب له الآذان، يا جوهريّة الوجود وعالميّة الألحان.
رسالتك الخالدة، كانت وستبقى متعة لكلّ إنسان، في محتواها فرح، يهدئ الرّوح ويمنحها السّكينة والسّلام، وطنيّة تنشدين الحرّيّة وفيها دعوة للخير والحقّ والجمال. فإذا أنّت الرّوح ألمًا، تجد في صوتك العذب بلسم الشّفاء. وإذا رزخ الوطن تحت نيرظلم أواستعباد، نجد في صوتك صرخة ثورة وغضب على كلّ ظلم او استبداد. فأنت سيّدة الطّرب، كلّ الطّرب، بحداثته و فولكلوره وأصالته. صوتك يا سيّدتي نغم العود وصرخة النّاي و هدأة الرّيح بعد ارتطام الموج وأنّة العشق في لحن الكمان.فيروز يا قرينة المجد في زمن الظّلام.