توافدَ النّاسُ إلى دارنا منذ الصّباحِ الباكر زُرافاتٍ ووحدانا؛ من قريتنا ومن القرى المجاورة. وتهافتَ إلى منزلنا كلٌّ الذين أحيوا عرسَها الأسطوريَّ بمفهومِ ذاكَ الزّمان ومقاييسِ تلكَ البيئة. ذاكَ العرسُ الذي ظلّ مُشتعلاً بالفرح حتّى الصّباح يُنيرهُ قمرٌ مكتملٌ يتهادى بطلّتهِ البهيّةِ من الشّرقِ إلى الغربِ فوق ذُرا جبالِ الميسرة، وتحرسُهُ سبعُ نجماتٍ ساطعاتٍ من بناتِ النّعشِ الأزليّةِ تطلُّ على الكونِ من الشّمال بأعينها المتقّدة.
ويا لهول الخبرِ عندما قرعَ الرّسولُ الموفدُ من قبلِ والدي أبوابَ أخوالي السّتّة من آل حسين في بلوسين نديمةِ النّجومِ والملتفّةِ بالغمام، وأُذيعَ الخبرُ الصّاعقُ في بيت جاش المجاورة حيثُ أخوال أمّي وأقاربها من آل محفوض والخيّر… بدتِ الطّريقُ الحراجيّةُ التي شقّتها الأقدامُ عبرَ الزّمنِ والموصلةُ شرقاً إلى قريتنا سهلةً ميّسرةً على غيرِ عادتِها تحت وقعِ المشاعرِ الملتهبةِ للّحاقِ بالجنازةِ قبل لحدِ ابنةِ أختهم الأثيرة على قلوبهم والتي كانت تقضي أيّاماً عندهم في مواسمِ المراب والزّعرور. ولن يسمحَ خالي الشّاب توفيق بأن يحملَ جثمانَ نوال ويُلحدَها سواه… وقد بقي منديلُ الحريرِ الذي أهدتهُ أختي لعروسِهِ في عهدةِ زوجتهِ التّسعينيّة وإلى الآن تنظرُ إليهِ باندهاشٍ وحذرٍ مريب من ان يُخطفَ منها، وكأنَّ خيوطَهُ حيكت من الذّهبِ وليس من الحرير وهي تستحضرُ بأسى صاحبةَ تلكَ الأناملِ الطّويلةِ الجميلةِ النّاعمة التي أضافت بسنّارتها أشكالاً هندسيّةً منتظمةً ومتساويةً بعددِ الغرزاتِ إلى أطرافِ المنديلِ مُزيّنةً إيّاها بنمنماتٍ من الأوراقِ والطّيور والزّهور…
كانوا يمتطونَ ظهورَ البغالِ المتمّرسَةِ على السّيرِ طويلاً في الطّرقِ الوعرة… عبروا جبالَ الشّعرى، ثمَّ مرّوا بخربةِ مزقة الأثرية، وأخيراً اقتربوا من تخومِ قريتنا عبر أرضٍ شاسعةٍ مستويةٍ لوالدي تُدعى “جوبة هلال”، تمتدُّ في وادٍ بين جبلين، وكانت تتّسع لبذارِ شنبلِ حنطة…
كان موتُ نوال فاجعةً قصمت ظهرَ القريةِ بأكملِهَا. فقد بكاها الصّغارُ والكبار، النّساءُ والرّجال، الأصدقاءُ والأعداء… فلم تشهدِ المنطقةُ فتاةً بهذهِ الأُعطياتِ كما كانت عليه… ولزمنٍ طويلٍ صارَ أهلُ القريةِ يستهينونَ بالموتِ، ولا يَعبؤونَ برحيلِ المرضى منهم وكبارِ السّن…
كُفّنت أختي نوال بعد غسلها بأكفانٍ ثلاثةٍ؛ اثنان منها ملوّنانِ، فيما الكفنُ الخارجيُّ كما هي العاداتُ أبيضَ، بسيطٌ بلا جيوب، ومُخاطٌ باليد…
توزّعتِ النّسوةُ ورفيقاتُ نوال على بسطٍ صوفيّةٍ حمراءَ ذاتِ معيّناتٍ عملاقة تتلاقى عند رؤوسها، ملوّنةٍ بالأسودِ وقليلٍ من الأصفر… وأسندن ظهورهنَّ على مساندَ متينةٍ، طويلةً، غيرَ قابلةٍ للثّني، موشّاة بأغطية من الدّاماسكو بلونها الرّماديّ اللّافت… بينما التصقت أمّي المفجوعة بفراشِ ابنتها المسجّاةِ دونَ حراك…
الجوُّ مفعمٌ بالأسى، والنّاسُ واجمةٌ حزينةٌ غارقةٌ في أسئلةٍ محيّرةٍ منها ما يتعلّقُ بمصيرِ الإنسانِ المجهولِ، وعجزِ المخلوقِ أمامَ الخالقِ، ومنها بفلسفةِ الحياةِ وبطلانها… وفي هذا الوجومِ يصدحُ صوتُ أمّي الحنون المحمولِ على نغماتٍ ممدودةٍ، تتيحُ للآهاتِ أن تصعدَ، وتتنفّس، وتعبّرَ عن ذاتِها.
ومن اللّحظةِ الرّاهنةِ تتكفّلُ المواويلُ الحزينةُ؛ بلغتِهَا المختزلةِ، وقوافيها المتشابهةِ باللفظ، المختلفةِ بالمعاني برصدِ مشهدِ الوداعِ الأخيرِ الغارقِ في السّوادِ، المبلّلِ بالعبراتِ، الطّافحِ بالحسراتِ، والمُترعِ بالغصّات… تنهيدةٌ ويصعدُ موّالٌ من أعماقِ قلبِ أمّي النّازف:
حبابي وين ما راحوا يحلّون
وقلبي وعقدة همومي يحلّون
وكاس المرّ بالمبسم يحلّون
يصبح كاس طيب للشّراب
يثيرُ الموّالُ بين الحضورِ موجةً من البكاء.
تتناوبُ الصّبايا حاملاتُ الأصواتِ الجميلةِ رفيقاتُ نوال المواويلَ الحزينةَ مع أمّي… ها هي ذي “ريحانة” هيفاء القدِّ بعينيها الخضراوين، “ومنيرة” جارتُنا البيضاءُ الحلوة، والتي مازالت على قيدِ الحياة، “وبهيجة” قريبتُنا السّمراءُ من دير ماما بعينيها الواسعتين السّوداوين يُشعُّ منهما الذّكاءُ يتبارينَ بسكبِ حبّهنَّ لرفيقةِ الصّبا نوال… ولم أعد أذكرُ مواويلَ تلكَ الصّبايا لكنّي مازلتُ أحفظُ بعضاً من مواويلِ أمّي وربّما لأنّي كنتُ أسمعُها مراراً وتكراراً… كانت أمّي قد التقطت أنفاسَها ونالت استراحةً قصيرةً مكّنتها من العودةِ إلى الغناء:
حبابي الرّب عن عيني بعّدهمْ
وتعكّر كاسنا الرّايق بعدهمْ
دخيلك يا ربّي عيشتي بعدهمْ
أصبحت كلّها ويل وعذابْ… يا ويل ويلي يا ويلي…
تجهش أمّي بالبكاء وتتبعها نسوةٌ أخرياتٌ بعضهنَّ واقفاتٌ لا يتّسعُ المجلس لهنَّ، فأستفيقُ من غمرةِ حزني وتشتّتي وضياعي لقناعتي الرّاسخةِ بتكذيبِ حدثيّةِ الغيابِ وأنَّ ما سمعتهُ لتوّي ليس سوى تهليلٍ لاستيقاظِ نوال من غيبوبتها، وعودتِهَا مجدّداً إلى الحياةِ فتندَّ عن ثغري ابتسامةٌ مضلّلةٌ، ويُشعُّ من عيني الشّهلاوين فرحٌ عابرٌ، وأنا أرنو إلى فمِ أختي، وأنّهُ منذُ البدايةِ لم يكن مطبقاً، وأنَّ عدمَ إطباقهِ سيفيدُ في مرحلةٍ لاحقةٍ، فأُسَرُّ بشعورٍ داهمني دون سواي وأَملَى عليَّ أن أعدَّ ما ظهرَ من أسنانِ أختي اللؤلؤيّةِ المنتظمةِ، وقد تملّكني إحساسٌ يشبهُ الهلوسةَ بأنّ أختي تبتسمُ، لكن سَرعانَ ما عاودني اليأسُ، ورحتُ أُخفي انفعالي، وتشنّجي وانقباضي، وقد استسلمتُ للنّحيبِ مغطّيةً وجهي بكلتا يديَّ اللتين ستفتقدانِ طويلاً من أمسكت بإحداهما ومشينا معاً لتسجّلني كأصغرِ تلميذةٍ عند الخطيب…
وها هي أمّي تُعاودُ ندبَ ابنتها وتأسى على رحيلِهَا، بل تنكرُ هذا الرّحيلَ وقد عاشت مدلّلةً ترفلُ بالنّعيمِ
يا قلبي دلّلوك وليش ما رضيتْ؟!
ويحطوك بالعلالي وليش ما رضيتْ؟؟!!
وبالعزّ عشت يا حبيب قلبي وما رضيتْ
تريد تروح عا درب الحباب…
يادلّي… ويا عين عيني…
ليس هناك من يملكُ هذا الكمَّ الحزينَ من المواويلِ كما أمّي… وليسَ من عائلةٍ تُغدقُ الحبَّ على أولادها، وتحنو عليهم وتفديهم بأغلى ما لديها كأهلِ أمّي… وهم يشكّلونَ غالبيةَ سكّانِ القريةِ، والتي وإن بعدت واختبت بين أحضانِ الجبالِ، والتفّت بأشجارِ الغارِ غيرَ أنَّ الأقدامَ المُحبّةَ كانت تغذُّ السّير إليها. كان جدّي لأمي يُشعلُ النّارَ ليلاً ليهتدي بها من ضلَّ الطّريق. ومازال رواقُ جدّي “صالح حسين” والذي كان منذوراً للتعبّدِ والتّصوّفِ وقراءةِ القرآنِ بصوتٍ مسموعٍ قائماً حتّى الآن يُذكّرُ به… وكانوا في عيدِ الأضحى يستقبلونَ صفوةَ المشايخِ الكرام من آل وقاف، ومشايخِ الزّاوي من آلِ عبّود والدّالية والشّندخة وبيت جاش…
أبي الذي اعتادَ استقبالَ الضّيوفِ والتّرحيبَ بهم في المسرّاتِ يفتحُ صدرَهُ الآنَ، ويتقبّلُ التّعازي من مئاتِ النّاس… يحاول جاهدا ان يبتسم في وجوه المعزين غير أنّ وجههُ كامدٌ، ونظراتُهُ رغماً عنهُ تشردُ بين الحينِ والآخر… في غرفةِ الضّيوفِ يستقبلُ المشايخَ من القريةِ، ومن الزّاوي الذين ألفوا هذا البيت، ويكنّونَ لصاحبهِ أعظمَ وأصدقَ المشاعرِ…
يتبع …
٢٢ نيسان ٢٠٢٤