جميع من في هذا الكون وحدهم متابعة صفحات التواصل الداعية للتفكك ونفي المجتمعات وترابطها، تدمير رفاة الأخلاق؛ انساق الكل بلا استثناء خلفها كلاً حسب تطلعاته ما زال يضمن له ذلك كامل السرية! اتاحت الجشع، شجعت مناديه به وإليه. حللت انحلال الأخلاق والخلق. ممجدة التفاهات، بل عظمتها في الوصول للثراء، البستنا قناع الزيف والخداع أمام وجهة صفحاتها دون رادع أو حدود. وحدت الشعوب رغم اختلاف ثقافتها وظروف معيشتها! تساوى العالم بالجاهل، أصبح العاطل يجني أرباح وأموال بلا بجهد أو عمل. أمست الشهرة هدف حياتنا ووجودنا! فوضى عمت هذا العصر، قصرت عمر الزمان لركوب ظهر الموج. غيرت قانون الكون فنبتت أنياب للأسماك الصغيرة لتفترس الحيتان أو تلازمها وترافقها مسيرة عبورها البحار والمحيطات بغرس أنيابها تلك بجسدها! هذا ما تكبته الصحف الرسمية عن تلك الحادثة، وما ذكرته البرامج بالمحطات الإخبارية، ثم تلقفته صفحات التهديم الاجتماعي بسرعة البرق لركوب ما يسمى بالترند!
* * *
مازلت أجهل نفسي، أم لأني متسامحة مع الجميع على حسابها فغادرتني متنكرة وتاهت من أجل الآخرين، ضاعت بين أكوام حطامها، أصبحت غريبة عنها لعلني لم أثمنها كي أجعل نبض حياتها لا يقف وسط الدرب خال الوفاق يجاهد من أجل اثبات الذات المغتالة بإرادتها باسم الشعارات التي أصبحت لا قيمة لها أو وجود في حياتنا. هل أستطيع إيجادها لترويضها من جديد قبل أن تفرقها الروح للأبد؟ أم أنها ستكون كسابق عهدها لأنها هكذا خلقت وتكونت؟!
إلى أي مدى يستطيع الإنسان تحمل الألم؟ الصبر على المعاناة، كظم القهر وبلع الغضب، هل له قابلية البالون أجابت تحدث نفسها وتسرها ولكن لحظة يا تهاني: حتى الأخيرة لها حد للاستيعاب قبل الانفجار.
أفاقت من موجة حزنها التي كثر اجتياحها في آونتها الأخير على صوت خادمتها وهي تسألها بصوت عال مصطنعة عدم الانزعاج بعد تكراره عدة مرات:
– هل يمكنني الذهاب أم هناك شيء يجب تنفيذ عمله قبل أن أذهب؟
حضرت تهاني من ملكوت منجاة عذاب خيالها الغير منتهية لواقع وقع كلمات عاملتها التي قطعت عليها خلوتها وانتشالها من هم معاناتها الأبدية لترد عليها والكدر يغلف نبرة صوتها:
– عزيزتي يمكنك الذهاب إن أتمتِ كل ما طلبته منك، لا تنسي أخذ ما وهبتك إياه معك.. لحظة صمت وكأنها تسر نفسها متابعة: كما تعلمي لم يبق لي من متطلبات تذكر سوى ما يمدني للغد.. أنهت جملتها ثم سرحت في ملكوت خيالها من جديد صامته كتمثال لا ينطق..
غادرت آية مكانها غير مكترثة لسماع كلمات سيدتها، ودعتها ولم تنتظر الجواب كعادتها في آخر أونه لما كانت تعتبره بطر على النعمة وهي تهمس لنفسها بجحود: أناس معدمون كأنهم أصابتهم لعنة الرب، وبشر متخم من فرط النعم!
سكون مطبق، هدوء ملفت في شقة تهاني رافقته رائحة منبعثة مقلقة للأنوف. لم يلمحها أحد خلال ثلاثة أيام بعد مغادرة آية مما أثار فضول حارس البناية للسؤال عنها، رغم أنها كانت تفضل الوحدة لكنها كانت تخرج كل يوم للعمل أو قضاء بعض حجات المنزل رغم قلتها! رن الجرس أكثر من مرة وهو يحاول
2/3
تلافي الرائحة المزعجة المنبعثة من هناك بضغطه على أرنبة أنفه بأصابعه مرة واخفائه تحت كم ملابسه الرثة التي كانت رائحتها أهون بالنسبة له من تلك مرة أخرى.. طرق الباب بقوة وهو ينادي:
– دكتورة تهاني هل أنتِ بخير، دكتورة هل أنت بالدار؟
بعد تكرار محاولته تلك عدة مرات وبأوقات مختلفة قرر الاتصال بالشرطة للتأكد من أن كل شيء على ما يرام، استجابتهم للبلاغ سابق الزمن، حضورهم كان سريع، لم تمض نصف ساعة، اقتحموا الشقة، خطوات معدودة تجمد جميعهم بمكانه وقتما صعقهم المنظر المروع وهم يتعمقوا بخطاهم داخلها..
جثمان امرأة بمنتصف عقدها الرابع، سمحة الملامح، أنيقة الملابس، تهشمت نظارتها الطبية فوق عيناها، ضرج وغرق جسدها ببركة دمها الذي تناثرت قطراته بأركان غرفة المعيشة ليثبت لمن يراه أنه كان صراع من أجل البقاء.. لتبدأ مرحلة البحث عن الجاني والاستقصاء عن ملابسات الحادث!
طوت تهاني حياتها الماضي تحت رداء الذكريات، مكتفية بجلد الذات بسوط الغدر والخيانة من أبنائها رداً لجميل تعب السهر ومكابدة الصعب حتى رست بهم لبر الأمان ما أن توفى والدهم وهم لم يبلغوا بعد!
رحل الجميع وعوائلهم كلاً يبحث ناشداً عن وجوده بالحياة بعيداً عنها كأنها لم تكن في يوم أمهم لتواجه مصيرها الذي لم تستحقه لطيب نفسها، وكرم عطاءها الذي كان سبب خاتمتها تلك!
تحقق رجال المباحث بأن تهاني لم يتردد على منزلها سوى شابة بنهاية العشرين من زمن عمرها؛ نحيلة البنية أكثر ما يميزها نظرتها الحاقدة الثاقبة تدعى آية، تحضر مرة كل أسبوع لتلبي احتياجات الدكتورة من تنظيف وما شابه ذلك وتخرج بعد أنهاء عملها محملة بالأكياس من كل صنف ونوع هبات من صاحبة عملها. لكنها وفي آخر مرة لم تحمل معها أي كيس! تجنبت آية طيلة فترة عملها الاختلاط بسكان البناية وحتى البواب لم يتعد حديثها معه السلام دون كلام. تعمدت الغموض مع الجميع والكل يجهل عنها أي معلومة تدل على سكنها، أصلها أو فصلها! بعد جهود مضنية وصل رجال التحريات للوسيطة منال ليستدلوا منها على مكان سكن آية.
رشحت منال الأخيرة للعمل؛ وقتها شرحت صعوبة ظروفها لتوفير لقمة عيش لتهاني، حاك وضعها بالفور عقلها، در عطف مشاعرها حالها يومها قررت مساعدتها بمنحها فرصة للعمل..
تم القبض على آية وبحوزتها جهاز الكمبيوتر الخاص بالمجني عليها، وأيضاً المحمول التابع لها وهي تحاول بيعهما بعد أن باعت مصوغات الذهبية وبعض أدوات منزل المجني عليها! لم تستغرق تحت الضغط وقت طويل للاعتراف، صرحت غير نادمة بما جعل وسواس شيطان جرمها ينمو بأعماق داخلها.. حزمت النية، عازمت على تنفيذ خطتها ما أن تأكدت طيلة فترة عملها بأن أحداً لا يزور سيدتها من أبنائها أو معارفها؛ شرعت تشرح تفاصل فعلتها دون أسف أو بوادر حزن رغم اعترافها بكرم تهاني معها!
في آخر يوم قررت فيها وجوب التنفيذ وأن الوقت قد حان؛ سرقت مفتاح الشقة وهي تخرج مودعة كعادتها، الظروف كانت مؤاتة، كيلا تنتبه تهاني بخصوص المفتاح، عادت متسللة للشقة بعدها، لم يردعها ضميرها، ويخمد صلابة عزمها المتهتك، لم يشفع رجاء تهاني عندما صدمت بوجودها أمامها بعد أن تغلبت على ذهولها متبينه نية الغدر. شراره الحقد كانت تتطاير من عيناها، تحولتا لنظرة وحش كاسر كل ما يراوده الانقضاض على فريسته! رجتها ان لا تفعل فحرية الإنسان ليس لها ثمن، مستعدة منحها كل ما ترغب به! لكن آية انصاعت لأوامر نوازعها الشنيعة دون تردد، انهالت عليها بالضرب بقضيب معدني جلبته معها، صراخ تهاني المستغيث ومحاولة فرارها لم تجنيها نفعاً ولا حتى الدفاع عن نفسها بتجنب الضربات، تمكنت آية منها حين هوة على رأسها بالضربة القاضية التي اسكتت صوتها وقطعت أنفاسها للأبد!
حزن أبناء تهاني على نبأ مقتل أمهم لم يدم طويلاً لبدء النزاع بينهم على الورث!
قصة جميلة ونهاية مأسوية ليس فقط في موت البطلة مقتوله وإنما أيضا في عدم اهتمام الأبناء وبدء صراعهم على الارث دون اكتراث برحيل الام ….. وقد استطاعت الكاتبة التركيز على وحشية الحياة وقسوتها وموت المشاعر في زمن الانترنت دام إلرقي والابداع
تحياتي وتقديري لمرورك شكرا