بعد ان بلغ الأب الخمسين ..جمع أولاده وزوجته ..وقال لهم :
عندما يأتيكم خبر موتي ..تعالوا إلي جميعاً وقفوا حولي مثلما تقفون الأن ..وبعد قراءة الفاتحه على روحي ونفخها في وجهي ..اتخذوا قراراً بعدم دفني يوم موتي بل قوموا بتأجيل الدفن لليوم التالي أو الذي يليه ..الغاضبون مني بسبب قسوتي ..عليهم أن يؤجلوا غضبهم ويتذكروا محاسني ..ويمنحوني يوما واحدا بينهم زيادة على حصتي ليتأكد لهم موتي ..
لأنه في الأيام الأخيرة تفاقمت ظاهرة عودة البعض للحياة بعد دفنهم في القبور .. وفيهم نسمة خافتة من الحياة ..
ماتلبث هذه النسمة بسبب الخوف أن تتحول داخل القبر بإذن الله ..إلى إعصار يدفع الميت ليعود ثانية للحياة وعندما يجد نفسه في القبر ..حيث الفراغ وصرخات العتمة والفناء ..وارتباك ملاكي الحساب.الذين يعدان العدة للبدء بالأستجواب .
لذلك لا تحاولوا الاستعجال في دفني في اليوم ذاته .حتى ولو كان موتي الافتراضي في شهر أب اللهاب ..حيث تفسد المروآت والأجساد بسرعة وإصرار .وإن حدث وامتثلتم لأمري ..فلا تتركوني لوحدي في القبر ..وتناوبوا على البقاء قربي في الليل والنهار لمدة أسبوع على الأقل لتنتبهوا لصرخاتي التي ستوقظ الجبال إن عدت ثانية للحياة ..وتدفعكم للتدخل واخراجي من القبر لأتأكد من موتي ويداخلني شعور عارم بالاطمئنان ..
فما كان من الأولاد والبنات ..سوى ان وعدوا والدهم خيرا ..ثم هربوا الى أكثر من اتجاه ..
..وعندما وصلوا لبيوتهم ..باح الأبناء لزوجاتهم والبنات لأزواجهم بالأسرار
وأخبروهم ..بأن والدهم
قد أصيب بلوثة الخوف من ان لا يُمنح الفرصة التامة ليموت موتاً تاماً في أخر الأيام ..
..وهذا من شأنه أن يشتت انتباه الأبناء والبنات ..
وخصوصا خلال اقتسام الميراث .
المهم في الأمر أن الأب بعد مدة من الزمان يحار فيها أولوا العلم والأحياء والأموات … أصيب بوعكة خفيفة ثم تمددعلى سريره وغادرته الأنفاس ..إلا نفسين رهيفين لايريان بالعين المجردة كانا يترددان من فمه وانفه على استحياء وكان النفسان من اللطف والخفوت بحيث منعا الأب من الإتيان بحركة واحدة أو تلويحة وداع ترشد الحشد إلى أنه مايزال على قيد الحياة …
الابناء بسبب حبهم الكبير لوالدهم ومشاغلهم الكثيرة التي لا تأكلها النيران ..أحضروا بسرعة طبيباً وطلبوا منه فحص والدهم للتأكد من أنه مات ..ولكي يقنعهم الطبيب فحص الأب مثنى وثلاث ورباع …وأكد لهم بأن والدهم ..
ورغم أنه يتمتع بالقليل من الدفء بسبب شهر أب اللهاب .إلا أنه ميت موتا تام الأركان ..لا يختلف فيه اثنان من أمهر الأطباء الثقاة ..وقد حصل هذا كله ..دون أن ينتبه الأبناء والطبيب الى دمعة سالت من عين الأب توحي بأنه لم يزل وبنسب ضئيلة من جملة الأحياء..بعد ان اتم الطبيب الفحص … كتب للأبناء تقريرا طبياً..
يعزز حدوث الموت ويتبناه ..غير ان الابناء ألحوا على الطبيب ليفحص. والدهم من جديد ..مما اضطر الطبيب لأن يحلف للبنين والبنات يمينا مغلظا بالطلاق ..
بأن والدهم قد مات ..
تقرير الطبيب تحول إلى وثيقة تمسك بها الابناء لتعزيز موت والدهم ..لذلك تدافعوا لدفن والدهم في الليل وقبل جهجهة الضوء ..كما يُدفن الغرباء والعصاة . وذلك عملا بالمثل السائد ..إكرام الميت هو في الإسراع بدفنه ..وفي لحظة إنزاله للقبر حاول الأب أن ينفخ برفق على يد ابنه الأكبرالذي أمال رأس والده الميت الى جهة القبلة وكشق عن وجهه الغطاء ..غير ان الابن لم ينتبه …ربما لكثرة مشاغله ..أو لعل الهواء الذي تسرب من فم الأب كان رهيفاً وخفيفا إلى الحد الذي لم يكن ممكنا أن تنتبه لخقته حتى فراشات الليل الضالة والأزهار .
عندما وضع الإبن الحجر الأخير واغلق القبر اغلاقا تاماً..وتلاشى شعاع النور الضئيل الذين تمكن من التسرب خلسة إلى داخل القبر …
أحس الأب بالوحدة والغدر ..وبمعنى أن يترك الأولاد والدهم وحيدا داخل كل هذا الليل .ثم أغفى على حذر وخوف داخل القبر .
بعد مدة لا يعرف احد مواقيتها ومقاديرها ..تقدم إلى جثمان الرجل الملكان أنكر ونكير المكلفان بطرح الأسئلة لامتحان الموتى في القبر .فسمعا حفيف هواء ولهاث كأنما هو قادم من الحياة البعيدة خارج القبر ..فهرعا إليه فوجدا الأب الذي لم يشبع موتا بعد ..قد عاد للحياة بدهشة وذعر ..فحدثاه فتحدث معهما بإعياء وطلب منهما بلغة ممطوطة ومترنحة أن يقدما له القليل من الضوء والهواء الذي اعتاده الناس خارج هذا السرداب .
ليتمكن من الحزن والكلام
فقال له الملكان سنحاول ..
فسألهما الاب : هل انتما انكراً ونكيراً ..ملكا القبر والعذاب والثواب ..
فأجابا :نعم ..
فقال لهما : ولكنكما كائنان لطيفان
فقالا : شكرا .
فسألهما : هل ستحاسباني وتسألاني عن اسمي وربي ونبيي ومعتقدي
فأجابا : لا
فقال : ولماذا؟
فقالا: نحن نسأل الموتى ولا نسأل الأحياء .
فقال الرجل :فماذا أسمى أنا ومن أكون .؟ نصف حي ام نصف ميت ..أم نصف مجنون .
فقالا : نحن من الملائكة ولم يخصنا الله بمعرفة الأسماء .
التي خص بها أدم ونسله من بعده .
عندها أصيب الرجل بالوحشة والهذيان وبدا الصراخ
من اكون أنا إذاً ..نصف حي ام نصف ميت ..نصف حضور أم نصف هباء ..من اكون ؟من أكون ؟وظل يرددها وترددها معه الجهات حتى سمعت زوجته صوته ..
فركضت إليه من أخر الأرض كما تركض الأم لوليدها الجائع للحليب والأمان ..
وعندما وصلت ارتمت على القبر وصاحت أنا هنا ياإبن الحلال ..وبدات بالحفر والكلام حتى فتحت ثغرة في جدار العماء العظيم في القبر .. وكشفت عن زوجها الفطاء وكشفت عن صدرها وعانقته وعانقها بوله واحتدام حتى ماتا معا من الحب ..