
عبير داغر اسبر
لم أكن من مُحبّي الخيارات السهلة، ولطالما بدت محبّتي لفيروز خيارًا آمنًا وسهلًا يغلق أقواس النقاش وينهيه بنقطة عملاقة ثقيلة ونهائية. فمن منا لا يحب فيروز، حتى إن لم يكن يحبّها فعلاً!
فما الذي لا أحبّه في فيروز وأعشقه في صباح؟ ولمَ المقارنة أصلًا؟
في بلد صغير، كلعبة جميلة لطفل مدلل، عاشت فيروز والصبوحة متجاورتين في بقعة مختلَقة كالجنة، اسمها لبنان، في فترة ماسيّة، محاطة بأصوات كأنسكاب الذهب وندرة الياقوت واللؤلؤ. تداخلت خطوط حياة السيدتين باشتباكات آمنة، لكنها، وعلى الرغم من قربها الجغرافي والإنساني، لم تُفجّر خلافًا ولا معارك، كما هو الطبيعي والمُفترض. فخيارات السيدتين باعدت بين نقاط الاشتباك تلك ولم تسمح بحدوثها.
تلقّفت المؤسسة الرحبانية صوت فيروز وأمّمت كل ما فيها. وفيروز اللبنانية بدت أكثر سورية مما ينبغي لأنها تمأسست وضاعت فرديّتها، فأصبحت صوت أمة، لا صوت امرأة. أصبحت كيانًا لا يُمسّ وأيديولوجيا يجب اعتناقها أو نسفها. زارت البلاد سفيرةً وتلقّت الأوسمة من رؤساء ووزراء. وعندما نوقشت، نوقشت كظاهرة، هناك، بكل وضوح وتحت الأضواء، في مكاتب وزارات الثقافة والخارجية والدفاع.
بينما كل هذا لم يحصل مع “الصبوحة” التي لم تسمح لأحد أن يسرق حمضها النووي ومادة نخاعها الرمادية، ولم تسمح أن تُخلط فرديتها بأنساب مواهب أخرى. غنّت “صباحي” ما تُحب، وكل ما ينطق باسم أنوثتها. غنّت عن العشاق بمكاشفة امرأة حرّة، عارية الكلمات، عاشقة وغلبانة. غنّت بشبق، وبانتظار الوعود، وبلهفة الجميلات اللواتي لا يشبعن كلما نظرن في المرآة وتحسّرن على جسد سيطاله الفناء كما لا يجب أن يحصل. تحسّرت الجميلة، تساءلت عن اللاعدل في الحكاية الإنسانية. اختارت في أي نبع ستُغطّس ماء شهواتها: “أنا نحلة، والنحلة كل الزهر بتستحلي”، ودعت، كما كل أنثى حرّة، ربّها أن تُمطر سماؤها عرسانًا علّها تشبع دلالًا وغنجًا: “يا رب تشتي عرسان، تا تلحقني طرطوشة”.
وعندما صُفعت من مخرج أو منتج، أو ذكر “رجل” بمال وسطوة، لم تُخفِ ما حصل وراء ستائر المؤسسة الزوجية الفولاذية.
صُفعت صباح مرارًا، وسُرقت مرارًا أيضًا، وعانت واضطُهدت وخُدعت كثيرًا. لكنها اعترفت أكثر. خلعت عن جسدها كل الآلام ورمتها عن كاهلها، وظلّت عارية، شفافة، بإمكاننا رؤية كل ما يمر عبر تلك الحياة. لم تعتذر، ولم تخجل. فهي اللبنانية “الفرد”، الآتية من الإفصاح، من الفضائحية المُحرّرة، من بيروت المدينة حتى العظم. وإن غنّت للضيعة فهي تغني كسائحة. فعلت الصبوحة كل ما لم تسمح به المؤسسة الرحبانية، المتديّنة، المتريّفة، “الضيعجية”.
أحببنا كلّنا صباح. أحبّتها عمّاتي القرويات، وقدّمن مع محبتها اعتذارًا: “يخرب بيتها يا عمّتي، ما أحلاها… بس ما بتستحي”، ويُطلقن ضحكة متواطئة يخبّئن فيها كل حسدهن وشهواتهن. لكن، مثل باقي النسوة، يخبّئن بتلك الضحكة ـ شبه الرقيعة ـ خوفهن من أن يُصبحنها، من أن يُصبحن حرّات مثلها. لكنهن، كما كل امرأة سورية بخيارات آمنة، فضّلن أن يُصبحن فيروز، أن يتماثلن مع فكرتها وصورتها وانعكاسها في مرايا وجدانهن.
وهذا أيضًا خيار وقور آمن يشبه خيارات العروبة لدى سوريا، ويكسر خيارات الفرانكوفونية/المدنية/الفردية لدى بيروت. اختارت عمّاتي القرويات فيروز دومًا، وذهبن مع صوتها إلى الحصيدة وقطاف التفاح، وإلى التنور ونبع الماء. فمن لا تريد أن تكون الأم الحزينة؟ من لا تريد أن يُنطق اسمها فيخشع الخاشعون، وتنزل الدموع ويجري نهر الاحترام والأخلاق والعفّة من تحت أقدامها!
هذا ما كانت عليه فيروز للنساء، لنساء قريتي اللواتي يضعن في الأربعين “لثمة” يغطّين بها شعورهن، ويذهبن بعدها إلى زيارات المساء بآثار الصفعات الزوجية على وجوههن، شامتات بصباح عندما تلقت صفعات الحياة. فهذا ما تستحقه من رجم، هي الجميلة المنتهَكة، هي مريمنا المجدلية في أقصوصة العهد الجديد. بينما تعاملن مع الصفعات التي تلقتها فيروز خلف أبواب بطرياركية الموسيقى والمؤسسة الزوجية الرحبانية بصمت قبور ووشوشة هامسة لا تجرؤ على الاعتراض أو التشهير.
مرّت صباح المتفرّدة كصوت في درب الرحابنة، فلم يستطيعوا منحها الوقار الكافي كما فعلوا بأم أولادهم. وأولاد الرحابنة ليسوا الأطفال فقط، بل الإرث الثقيل والتركة هائلة الفظاظة من تاريخ ورصانة ولياقة وحفلات عشاء رسمية، وإطلالات فوق مسارح بعلبك وبصرى والأهرامات. هذا الإرث الثقيل نفضته صباح عن ظهرها كما تُنفض اللعنات، فهي أكثر رشاقة من تحمّل كهذا العبء. لم تستطع التعامل مع كمّ الرياء والادعاء والمسرحة في المشروع الرحباني، المدروس بدقة مهندس، الخالي من الابتذال والمعقّم، والمعقّم حتى الموت. فلا وحول في بيت الرحابنة، وخبط أقدامهم مدوّزن وهدّار، وسيوفهم عالية لا صدأ فيها ولا هزائم تطالها. وكل ما لدى الرحابنة هو النصر أو وعود بالنصر، وبالقادم الأحلى، والمجد العائد.
ما أحبّه بصباح وأكرهه في فيروز، أن صبوحتي فلتت بفرديّتها وضعفها، بجلدها المكرمَش حتى الخجل، جلدها الذي كان أشد دسامة من القشطة. فلتت من الرصانة بجلدها الذي حفره الزمن ونهشته الذكورية. ذكوريتنا نحن النسوة أولًا، نحن اللواتي لم نجرؤ أن نكون، وأن نصبح إناثًا، فأردنا تحويل كل ما فينا إلى فكرة مطلقة: أن نكون أمهات وُلدن دون دنس، عذراوات، وقورات. نرتدي الملابس المحتشمة لنخفي تهدّل أذرعنا عند الكِبر، ونضع الأوشحة الهفهافة كما القصائد لنداري تكوّر أثدائنا عند اللذة.
أردنا ألا نخوض معاركنا مع الزمن وضد الرجال. اخترنا أن نغني في الصيام الكبير من أجل اعتناق التقشف وإماتة الجسد: “أنا الأم الحزينة، ومن يعزّيني”. اخترنا أن نكون أمهات الشهداء، لا عشيقاتهم في أيام القيامة وصلب الابن الحبيب على المذبح.
كل ما أكرهه في فيروز أنها فقدت فرديتها. أكره أنها كانت أضعف من أن تقف بكامل أنوثتها وتعترف بالحب، أن تذكر أنسي الحاج دون أن تختفي وراء باقة زهر على قبره. كنت أتمنى لو أنها أخطأت… وتُخطئ، وتدعس بقدم فيل في وحول الحياة، وتحترق بغباء فراشة بضوء حارق. أحببت لو أنها لم تكن معقّمة السيرة، وتركَت ذاتها تتلوث غير آبهة بالمؤسسة والأمة والبلاد. أردتها لبنان الفرد، الذي تلقّى بسبب جماله وخصوصيته كل الصفعات والطعنات، مقابل سوريا المؤسسة المؤمّمة الجمعية.
أحببت لو أنها أفصحت مرة عمّا تشعر: بخوفها، بكفرها، ببذاءتها، بشبقها، بغرائزها، بأنوثتها المتعثرة، المرتعدة، الخابية… كما فعلت صبوحتي، دون قلق أو اعتذار.
لكنها لم تفعل. إذ غرقت فيروز — دون منقذ — في فورمات العقل الجمعي وذابت في عناصره. حتى مع صوت لا يشبه أحدًا، صوت مفرد حتى النهاية، حضرت فيروز في وجداننا بلا فرديتها. إذ شكّلت لنا خزان وجدان جمعي كلما ابتأسنا وأردنا الشعور بالأهمية كجماعة، كمؤسسة، ككتلة غير متمايزة، مددنا أيدينا وغرفنا من ذاك الوجدان الذي ملأه الرحابنة ومعتنقو الرحابنة: فيلمون وهبي، سعيد عقل، نصري شمس الدين، وكلّهم يعني كلّهم. فكان الرحابنة كما هوميروس لليونان، لا للرومان: أي صوت لأمّة.
كل ما أكرهه في فيروز وأعشقه في صباح أن الاثنتين أنجبتا أولادًا. لكن فيروز ـ الأم / المؤسسة / الوقورة ـ تركت لأبنائها أن يديروا حياتها، وتصرفت كجدّة مع أنها لم تصبح كذلك ولم تُمنح أحفادًا. وبصدف بيولوجية نجحت مع زياد، وتركَت للمعتوهة الأخرى أن تفعل بها ما لا يجب أن تفعله ابنة بأم.
بينما، عندما ابتُليت صباح بالأمومة، تصرفت كقادرة ومسيطرة ومدبّرة: أتت بهويدا، وحاولت هي إنقاذها، ولم تترك لمعتوهتها أن تقرّر حياتها. وهذا ما أحبّه بصباح: أن كل معاركها خاسرة، وأنها تحمّلت كل الشتائم والنكات السمجة والشماتة المصحوبة بالغيرة، في أعين الرجال والنساء، ولم تسقط ولم تعتذر.
اليوم هو عيد ميلاد السيدة فيروز التي أحب. لكني كما دائمًا أجد ما أكرهه فيها، فهي النساء كما لا أحب أن يكنّ. لأني أفهم الهزيمة أكثر. أحترم الضعف البشري وأتماهى معه. أحبّ الخاسرات الشجاعات، هن أمي وخالتي والجميلات المتفرّدات، اللواتي لم يستسلمن لزوج أو لمؤسسة أو لكنيسة، أو حتى لصورة وفكرة عن أنفسهن. أحبّ في تلك النسوة: المدينة والمدنية. أحب بيروت الغاوية، لا دمشق المتحفّظة الوقورة، الآتية من اللاإفصاح.
والآن أستطيع أن أعترف ما الذي أحبّه في صباح وأكرهه في فيروز فعلًا!
أذكر تمامًا كيف ومتى دخلت تلك النكتة السمجة والقاسية في سجل مماحكاتنا أنا وأخي الوحيد. كنت alors في الرابعة والثلاثين، ولم يكن قد مرّ وقت طويل منذ أن فقدنا والدنا، فأصبح يُتمُنا تامًّا وازداد التصاقنا ببعض كما التوأم السيامي، مع أننا لم نكن كذلك. ولأسباب كثيرة، معقدة وبسيطة، ولغاية الآن، اعتدت أنا ووائل تبادل الأخوّة بمحبة هائلة حتى الإرباك، بإلحاح المحتاجين، وتواطؤ الخونة، وشراسة القطط واستمتاعها بالخربشة من أجل اللاشيء، ربما لاختبار صلاحيتنا للألم.
ربما لأننا تعرّفنا على الحياة من بابها الخلفي: باب الضحك والعدمية وكسر التقاليد وانبعاج القيم كقوارب اللاجئين المطاطية. وبسبب حميمية فرضها وضعُنا ذاك، لم يكن بيني وبين أخي أسرار كبرى، فتبادلناها بأريحية معقولة. لذا، وبقليل من التردد وكثير من الضحك والاستغراب، أخبرته كما دائمًا أني خرجت بموعد تن تنى مع شاب يدرس الإخراج السينمائي، وسيم جدًا وقد كان كذلك فعلاً، وناضج أكثر، لكنه يصغرني بخمس سنوات. فجاء ردّ وائل، دون رفة وجدان أو تردد كافر، مُجرّحًا جدران قلبي كحبة زيتون:
— أصغر بخمس سنين بس؟ ليش مو عشرة؟… شو إنتِ صباح؟
في عيد ميلادي الذي يأتي بعد أيام قليلة، أتمنى أن أكون صباح. ودائمًا ما تمنيت أن أعتنق صباح، أن أتمثّلها وأندغم بروحها، أن أجد مسارب النمل في خلاياها وأمشي بدأب في تلك المسارب، لأصل إلى عُري روحها وجسدها، لآتي الحياة والتفاصيل والمدن والأمكنة والرجال غير معتذرة عن تجاعيدي وشهواتي وخوفي وأخطائي، معترفة بها كلها، وبصفعات الحياة أيضًا، لأصل إلى العري المطلق، المخيف، الصعب.
وأعترف بأني لم أعد أخشى أن أوصف بالمتصابية، لأعترف بعدد عشّاقي الذين، كلما كبرتُ، كبر فرق السن بيني وبينهم.
كل سنة وأنتِ بخير يا فيروز… أحب فيك الكثير الكثير، وهذا
كل ما أكرهه بكِ
من سنتين وللآن